مها حاج (2/ 2): السينما تختزل ولا تقول الأشياء تصريحاً

مها حاج (2/ 2): السينما تختزل ولا تقول الأشياء تصريحاً

17 ابريل 2023
مها حاج في "كانّ 75": توقّعاتي من الممثلين واضحةٌ (باتريسيا دي ميلو موريِيَارا/فرانس برس)
+ الخط -

 

(*) تحدّثتِ عن مشهد لقاء وليد مع مُدرّسة التاريخ والجغرافيا، الذي اختُزل في الفيلم، وربّما لو تمّ إظهاره، لما كان بالقوّة التي تخيّلناه بها. هل اتّخذت هذا القرار منذ البداية، أم أنّ المشهد صُوّر، ثمّ لم تورديه في المونتاج؟

اخترتُ هذا منذ البداية. لم أكتب مشهد لقاء وليد مع المعلّمة ليُلقنّها درساً، لأنّه واضح إلى حدّ ما. ماذا بوسعه أنْ يقول لها؟ ماذا ستجيبه؟ ستكون النتيجة مبتذلةً وديداكتيكية، بينما الرهان واضحٌ في حديثه مع ابنه. الولد يُكرّر كلام والده، الذي يعزم على تصحيح الوضع. انتهى الأمر هنا. هذه السينما في اعتقادي تختزل، ولا تقول الأشياء تصريحاً.

 

(*) هناك عناصر سردية في الفيلم تحضر كثيراً في السينما الفلسطينية، كالعلاقة مع الجيران، ونوع من التفكّك العائلي. برأيكِ، بماذا توحي هذه الأشياء؟

الأفلام الفلسطينية تحتوي على أشياء أكثر من هذا. الفيلم الفلسطيني الاعتيادي فيه جدار وحواجز أمنية وجنود وحرب، ومستوطنات ومخيّمات. هذه كلّها عناصر اخترتُ ألّا أوردها في الفيلم، وأنْ أحكي، بنوعٍ من الإيحائية، قصّةَ فلسطينيٍّ، انطلاقاً من حالته النفسيّة.

صحيحٌ أنّ عنصر العلاقة مع الجيران موجود، عادةً، لأنّه يعبّر عن واقعنا. الجيران يُمكن أنْ يكونوا مصدر إزعاج، كما أنّه يُمكن أنْ يُشكّلوا منبعاً للتسلية والظرافة (نغاشة)، أو حتّى "ناقلَ أخبار ونميمة". هذا جانبٌ يحضر، إلى حدّ ما، في السينما العربية عامةً، اللبنانية أو المغربية. الجيران يعبّرون عن الآخر، القريب والبعيد في آنٍ واحد. ذاك الذي يسكن بالقرب منّي يزعجني وأزعجه، أحبّه ويحبّني.

 

(*) الجملة الختامية مُقتبسة من تشيخوف. هل كان الهدف منها التجرّد من السياق، وإعطاء نوع من الكونية للفيلم؟

لم أكن أتوخّى الكونية، حقيقةً. كان يُمكن أنْ أختار اقتباساً من أبو العلاء المعري، أو شاعر أو فيلسوف عربي آخر. كلّ ما في الأمر أنّ جملة تشيخوف هذه تلائم شخصية وليد تماماً. هو فعلاً محتار أمام الطقس الصحو: هل يشرب شاياً، أم يشنق نفسه؟ ما إن اكتشفتُ هذا الاقتباس، حتّى أحسستُ أنّه ينبغي عليّ استعماله. أظن أنّ قصة وليد نفسها كونية، لأنّها إنسانية في العمق.

 

(*) إخراج "حمى البحر المتوسّط" يتّسم بالكلاسيكية، إجمالاً. فيه الكثير من الشفافية، ما يجعله ينتمي إلى فئة السهل الممتنع. لكنّ هذا لا يمنع أنّ هناك مشاهد معقّدة إلى حدّ ما، كحفل العشاء، حيث تتحرّك الكاميرا والشخصيات. هناك اشتغال واضح على عمق الحقل. كيف تعدّين لتصوير مشاهد كهذه: هل تعثرين على طريقة الإخراج في التصوير، أم تحضّرين كلّ شيءٍ مُسبقاً؟

في أغلب الأحيان، حين أكتب، أتخيّل كيف سأصوّر المَشَاهد. لكنْ ليس دائماً. هناك مَشَاهد، كمشهد الصيد في الغابة، أشتغل على تقطيعها مع مدير التصوير (الفرنسي أنطوان إيبرْليه، مُصوِّر "حمى البحر المتوسّط" ـ المحرّر). هذا الأخير، بتصوّري، فنّان قائمٌ بحدّ ذاته في تخصّصه. لديه عالمه الخاص. أحياناً، حين يأتي ويقترح عليّ الاشتغال على لقطةٍ بطريقةٍ معيّنة، ويُقنعني باقتراحه، يُمكن أنْ أغيّر من تصوّري. أحياناً أخرى، يحدث العكس. هناك تلاقح بين الأفكار، انطلاقاً من الخبرة التي اكتَسَبها كلّ واحد منّا في مجاله. لكنّي أعتقد أنّ جوهر عملية التصوير يكمن في احترام السيناريو، وطبيعة الشخصيات. المشهد ينبغي أنْ يعكس حقيقة هذه العناصر في آخر المطاف، من دون زيادة ولا نقصان. هناك مدراء تصوير يحاولون أنْ يثبتوا مدى براعتهم، فيسقطون في الفذلكة. النتيجة ربما تكون جذّابة وجميلة أحياناً، لكنْ، هل تخدم القصة والحبكة؟ إذا كان الجواب لا، فليس هناك أي داعٍ لها. هناك تواضع كثير في إخراج الفيلم، إلاّ في مشاهد عدّة، تتطلّب إثارةً وتشويقاً.

 

(*) مشهد الغابة، تحديداً، بالإضافة إلى أنّه يُثير إحساساً بالقتامة، نظراً إلى ما يحدث فيه يجري في ظلام شبه دامس، ما يمثّل مجازفة كبيرة. كيف قرّرتِ تصويره في هذه الأجواء؟

(تبتسم) ما سأقوله لك طريفٌ نوعاً ما. لكنْ، حقيقة، عندما تكون بصدد الكتابة، تتكوّن لديك فكرة أوّلية حول ما تريده من كل مشهد، ومن الشخصيات. لكنْ، في مرحلة معيّنة، تفقد التحكّم، ويصبح هناك نوع من التّخاطر أو الوحي، لا أعرف مصدره. نوعٌ من الهدايا التي لا تتطلّب أنْ تكون على وعي تامّ بكلّ ما تكتبه، أو لماذا تكتب بطريقة محدّدة، أو ما تهدف إليه من خلالها. أحياناً، أنتَ نفسك تُفاجأ ممّا يخطر على بالك. أعتقد أنّك، حين تنزع تاج "الكاتب العظيم" من رأسك، وتضعه على شخصياتك وتنصت إليها، عندها فقط تكون كاتباً متواضعاً ومخلصاً لشخصياتك، وتصبح الكتابة نابعة من داخلك.

 

(*) ممثّلا الدورين الرئيسين رائعان، خاصة عامر حليحل، لاعتماده كثيراً على النظرات كي تُمثّل الحالة النفسية المركّبة للشخصية.

فعلاً. لم يكن محتاجاً إلى أنْ يتكلّم، لأنّ وجهه يتحدّث عنه. منذ أنْ خطرت فكرة الفيلم في بالي، خمّنت في عامر حليحل لشخصية وليد. لم يكن لدي أي تردّد في هذا الشأن، ولم أفكّر في أي لحظة بالاستعانة بأحد غيره. حتى إنّي لم أقم بأي اختبار له. التقيتُه، وتبادلنا الحديث. قلت له إنّي أودّ منحه دور وليد. كان قادراً على حَمْل هذه الشخصية، وإثارة تعاطف المُشاهد مع شرط الاكتئاب بطريقة أدائه الخاصة. لستُ بصدد التقليل من موهبة وقدرات ممثلين فلسطينيين آخرين. بالعكس، لدينا ممثلون رائعون. لكنّ عامر، بالذات، يتوفّر على براءة في ملامحه، أو في النظرة التي تحدثّت عنها، دافئة قليلاً، حالمة وحزينة في آن واحد، ومفعمة بالطيبة والعذوبة. تضافر كلّ هذه العناصر في وجهه وصوته وحركاته أعطى شخصيته هذا الزّخم، ومَكّن من تفادي مَلل المُشاهد منها.

 

 

(*) كيف اشتغلتِ مع الممثلين على هذه الأشياء؟ هل حرصت على التقاط ما يقترحونه في المحاولات الأولى، أم اعتمدت على التدريبات؟

قمنا بتمارين كثيرة. اعتمدتُ، في اشتغالي، على تمارين مع الممثلين الأساسيين، عامر (حليحل) وأشرف (فرح)، لشهرين ونصف الشهر قبل بدء التصوير. تحدّثنا مليّاً عن الشخصيتين، وجرّبنا أشياء عدّة. عندما حان وقت التصوير، كانا جاهزين. هكذا نكون في مأمن من المفاجآت.

صوّرنا الفيلم في 25 يوماً، بموازنة جدّ منخفضة. ولم يكن هناك هامشٌ لأنّ نُجرّب أو نخطئ، أو نُعيد التفكير في الأشياء. أنت محدود بالزمن والإمكانات. كلّما وصلت إلى التصوير أكثر جاهزية، كان الممثلون مرتاحين أكثر، وعلى علم بما سيشتغلون عليه كلّ يوم. أجرينا تغييرات قليلة، وجرّبنا أشياء هنا وهناك، لكنْ بشكل عام، كنّا نعرف جيداً ما نريده، وجاهزين لتصويره.

توقّعاتي من الممثّلين واضحةٌ، وكذلك توّقعاتهم منّي.

 

(*) عرض "حمى البحر المتوسّط" في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كانّ" (الدورة الـ75، بين 17 و28 مايو/أيار 2022 ـ المحرّر). هذا جيّد بالنسبة إلى فيلم طويل ثان. كما أنّه فاز بجائزة أفضل سيناريو. كيف تجدين تلقّي الفيلم، مقارنةً بانتظاراتك؟

في "كانّ"، كانت ردّة الفعل إيجابية جداً. أما بالنسبة إلى المهرجانات الأخرى، فأنا لا أسافر كثيراً مع الفيلم. كنتُ فقط في إشبيلية وباريس، والآن في مرّاكش ("المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، الدورة الـ19، بين 11 و19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ـ المحرّر). لكنّ الفيلم شارك في هونغ كونغ أيضاً، وفاز بجائزة أفضل فيلم. في تركيا، تُوّج بجائزة لجنة الطلبة.

هذا يدفعني إلى التساؤل: لماذا يحبّ مشاهدون من الشرق الأقصى فيلماً فلسطينياً، مع شخصيات تتحدّث اللغة العربية؟ هذا سؤال يُطرَح. الجواب، ربما: لأنّ القصة إنسانية، ويمكن لأيّ أحد، من أي منطقة في العالم، أنْ يتماهى بها، ويتعاطف مع الشخصيات. ليس ضرورياً أنْ تكون فلسطينياً أو عربياً حتّى تفهم اكتئاب وليد، وتستوعب مأساة الشعب الفلسطيني. يكفي أنْ تكون إنساناً.

المساهمون