من يريد إعادة السينما المغربية إلى زمن الوصاية؟

من يريد إعادة السينما المغربية إلى زمن الوصاية؟

10 مايو 2024
"الزين اللي فيك" للمغربي نبيل عيوش: رقابة قبل المُشاهدة (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الصراع بين الإبداع والرقابة في المغرب يُعيق حرية التعبير الفني، خاصة في السينما، حيث تُفرض قيود على محتويات تتعلق بالجسد والجنس، مما يؤثر سلبًا على الأعمال السينمائية والحوار الثقافي.
- المهرجانات السينمائية، التي كانت تُعد ملاذات للحرية الفنية، تواجه تحديات بسبب الرقابة، مما يُهدد التنوع الثقافي ويُحد من الإبداع والتعبير الفني.
- النص يدعو إلى الدفاع عن الحرية الفنية والتعبيرية كجزء أساسي من النضال من أجل مستقبل يحترم الحقوق الأساسية والتنوع الثقافي، مؤكدًا على أهمية التفكير في العواقب الطويلة الأمد للرقابة.

 

"لا شيء فاضحٌ في ما نعبّر عنه. الفاحش كامنٌ في ما نخفيه فقط"

ناغيسا ميشيما

 

شعورٌ بالامتعاض والخيبة، لا يمتّ إلى بهجة السينما بأيّ صلة، ينتاب المرء في ظلمة القاعة، حين يدرك أنّ مقصّ الرقابة تلاعب بما يُشاهده، مُضيّعاً عليه اكتشاف الفيلم في الشكل الذي ارتضاه مخرجه. بأيّ حقّ يُمنح أشخاصٌ ـ يشكّلون "لجنة رقابة" في "المركز السينمائي المغربي"، لا تُعرف خلفيّاتهم ونواياهم ـ سلطةَ الوسيط بين ذاتيّتي المبدع والمتلقّي؟ أيّ احترام يُكنّونه لصنّاع الأفلام، وللجهود المضنية التي يبذلها فنّيون وتقنيون، ثم أعضاء فريق تنظيم تظاهرة دولية بعراقة "مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط" (عام 2025، سيكون هناك احتفاءٌ مزدوج به، بمناسبة دورته الـ30، ومرور 40 عاماً على تأسيسه)، حين يبعثون إليهم وثيقة غريبة ـ لا تنتمي إلى روح العصر، ولا تستجيب لمقاصد الفن، لكنّ إصدارها ملزمٌ إدارياً ـ تنصّ بتفاصيل دقيقة على "ضرورة" جزّ الأفلام ضدّ كلّ نواميس الممارسة السينمائية في البلدان التي تكفل قدراً محترماً من حرية التعبير، والمغرب كان من بينها، أقلّه في ماضٍ قريب.

أشياء لا تحدث عادة إلّا في المجتمعات الموبوءة بالسلطوية الفجّة. لذا، يُستبعد أنْ يكون الأمر تعبيراً عن توجّه جديد للدولة المغربية، بل يُرجّح ارتباطه بمسؤول أو موظفٍ سامٍ، أخذته حماسة مفرطة، يسمّيها الفرنسيون Excès de zèle، فبالغ في الحذر، درءاً لمتاعب توجد في مخيّلته فقط.

الساحة السينمائية المغربية شهدت، في العقدين الأخيرين، قضايا عدّة في الرقابة المجتمعية على أفلامٍ، بالاحتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو بالضغط على مُستغلّي القاعات لسحبها من البرنامج، كالحاصل مع "فيلم" (2011) لمحمد أشاور. كما قاومت السلطات عرض "موشومة" (2011) للراحل لحسن زينون من دون قصّ أي لقطة منه، رغم الضجّة التي أثارتها بعض مَشاهده، في عهد الراحل نور الدين الصايل رئيساً لـ"المركز السينمائي". هناك أيضاً "الزين لي فيك" لنبيل عيوش، الذي لا يزال ممنوعاً من العرض في المغرب، بعد سيل هلوسات صادرة عن أشخاص لم يشاهدوه، بمجرّد تسرّب مقاطع منه تزامناً مع عرضه في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ".

أفلامٌ أجنبية تعرّضت بدورها لمقصّ الرقابة، قبل عرضها في الصالات التجارية: "سِفْر الخروج: الآلهة والملوك" (2014) لريدلي سكوت، و"بابل" (2022) لداميان شازل، الذي تعرّض لمجزرة من عشر قطعات. لكنّ المهرجانات كانت دائماً واحات حرية، تنشدُ أفقاً نصبو إليه جميعاً: عرض الأفلام باحترامٍ تامٍ لحرمتها الفنية، بينما تُكيّف ظروف منعها على الجمهور القاصر، إنْ استدعى الأمر، وفق نظام تصنيف متدرّج وواضح ومُبرَّر.

 

 

بغض النظر عن غموض المعايير المتّبعة في الرقابة على الأفلام ـ المعروضة في القاعات المغربية في السنوات الأخيرة، لأنّ منطق حجب مَشاهد على مُشاهدين "بالغين ومُلقّحين"، لا يمكن فهمه أو تفهّمه بأيّ حال ـ يرتبط قرار القطع غالباً بجسد المرأة ومَشاهد الجنس، كما في حالة أفلامٍ عدّة في المسابقة الرسمية للدورة الـ29 (27 إبريل/ نيسان ـ 4 مايو/ أيار 2024) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، تعرّضت للرقابة. يبدو أنّ عرّابي هذه القرارات لا يستوعبون أنّهم، حين يختلسون من المتفرّج مشهداً من صلب الفيلم، يُخلّون بالحركة نفسها، بالحبكة والإيقاع، وبجوّ الاندماج الذي ترتكز عليه كلّ فرجة سينمائية.

مثلاً، حين حرموا المهرجانيِّين من متابعة لقطة حميمة بين ماريا ورجل التقته في حفلةٍ ليلية، في "قرون" (2023) للإسباني خايون كمبوردا، عصفوا بتوازن خلّاق بين آهات المتعة في هذا المشهد، وصرخات الألم المنبعثة من حنجرة امرأةٍ، وافقت ماريا على توليد جنينها في المشهد الافتتاحي. من دون هذا المشهد، ينتفي استيعاب طرح الفيلم: حقّ المرأة في الحرية والمتعة، بداية سبعينيات القرن الـ20، في إسبانيا المتّسمة بالثقافة الفرانكوية.

إثر عرض "قرون"، وجد المهرجانيّون أنفسهم يخوضون في مسألة الرقابة ومتاهاتها العبثية، المضحكة والمبكية في آن، بدل مناقشة جماليات الفيلم البديع وطرحه. ثمّ خطورة وصاية أخلاقويّة تستنفد طاقة الدفاع عن أشياء يُظنّ أنّها بديهيات مكتسبة، وبدل السعي إلى حوار يستشفّ طرح الأفلام ويناقش تفاصيلها. إضافة إلى أنّها تهدّد بمفاقمة سلطة الرقابة الذاتية، المتفشية أصلاً إلى حدّ كبير في الوسط المغربي. طرح ضيوف المهرجان سؤالاً على السينمائيين المغاربة: "هل من المعتاد حصول أشياء كهذه في تطوان؟". تظلّ نظرة الشك بادية في عيونهم، حتى عندما ينفي المغاربة هذا. شيءٌ طبيعي بحكم سمعة الاستثناء، والمنسوب العالي لحرية التعبير السينمائي نسبياً، التي (كان؟) يتمتّع بها المغرب، مقارنةً ببلدان المنطقة.

من يمارسون الرقابة على الأفلام يهدمون ما استغرق بناؤه عقوداً، ويسيئون إلى الصورة السينمائية للمغرب أمام ضيوفه، أكثر مما يتمنّاه ألدّ "أعدائه".

في كلمة مقتضبة ألقاها في حفلة الختام، شكر إيليا سليمان، رئيس لجنة التحكيم، منظّمي المهرجان، ثم أسرّ أنّه "لا يرفض دعوة يتلقّاها من المغرب". لا شيء يضمن في المستقبل، إنْ لم يُقطع مع منطق الرقابة، أنّ يفكّر سليمان وغيره من كبار الفنّ السابع مليّاً، ولو بغير وعي، قبل العودة إلى بلدٍ تُقصُّ في مهرجاناته مقاطع من أفلامٍ سينمائية.

المسألة أهمّ وأخطر من لقطة عري عابرة، أو مشهد حبّ بين بطلي فيلم، يُحجبان في قاعة مظلمة، وفي مهرجان سينمائي. كيف ينفرج صدر من يضيق ذرعاً برؤية جسد أنثوي، ليتقبّل رأياً منتقداً، أو طرحاً مخالفاً؟ نحن هنا بصدد الدفاع عن أشياء تتعلّق بالحرية ونموذج العيش المستقبلي، الذي نرتضيه لأنفسنا. الرهان على الحقّ في الخلق والتعبير، من دون وصاية أو حجر من أي جهة كانت.

المساهمون