غياب نوادي السينما العربية: تقنيات حديثة أم قمع ورقابة وتسلّط؟

غياب نوادي السينما العربية: تقنيات حديثة أم قمع ورقابة وتسلّط؟

12 نوفمبر 2021
"ماذا بعد" طقوس المُشاهدة؟ صالة سينمائية نيويوركية (إريكا ستون/ Getty)
+ الخط -

طقوس المُشاهدة السينمائية تتغيّر يوماً تلو آخر. التغيّر غير مرتبطٍ فقط بتفشّي وباء كورونا في العالم، بدءاً من مطلع عام 2020. التقنيات، المتطوّرة بسرعة منذ سنين مديدة، دافعٌ أساسيّ إلى التغيّر، إذْ تمنح المُشاهد المهتم، القادر على امتلاكها، أدوات مشاهدة منزلية، تقترب كثيراً من تلك التي تمنحها الصالات المعتمة. كورونا يؤدّي إلى طغيان أكبر للمنصّات، بالنسبة إلى من لا يملك تقنيات حديثة، فالحاجة مُلحّةٌ إلى مُشاهدة أفلام ومسلسلات وسلاسل وثائقية في عزلات وحجر منزلي، لفترات طويلة.

التقنيات نفسها تطرح سؤال نوادي السينما. في تونس والمغرب ولبنان وسورية ومصر، مثلاً، تصنع النوادي، في مراحل زمنية قديمة، جزءاً أساسياً من الوعي والثقافة والمعرفة، بمُشاهدة أفلامٍ وإجراء نقاشات وتنظيم لقاءات حيوية، يستفيد منها كثيرون، ومنهم من يعمل لاحقاً في مجالات سينمائية مختلفة، كالإخراج والنقد، وإقامة ورش عمل وتدريبات، والتدريس. لكلّ بلدٍ عربي خصوصيات تتعلّق بآلية المُشاهدة، وتأثيراتها المتنوّعة. لكنّ المشترك بينها كامنٌ في أنّ نوادي السينما فعلٌ ثقافي وفكري وجمالي، يُساهم في بلورة علاقات حيوية بالسينما وأسئلتها وأشكالها واشتغالاتها، كما بالعاملين والعاملات فيها.

بعضُ شهود تلك المرحلة التاريخية يحفظ في ذاكرته حالة ومسارات وتفاصيل، يقول إنّها راسخةٌ في الوجدان والعقل والروح. نوادي السينما، في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته وسبعينياته تحديداً، غير معنيّة فقط بالمُشاهدة، مع التنبّه إلى أنّ أدوات المُشاهدة حينها سينمائية، فالغالبية الساحقة من تلك النوادي تعرض أفلاماً بنسخٍ سينمائية، في صالات سينمائية. النوادي غير معنيّة فقط بالمُشاهدة، فهدفها يتجاوز هذه الأخيرة إلى السياسة والاجتماع والنتاج الثقافي والفني والمعرفي، من خلال نقاشاتٍ تحصل بين مُشاهدين ومُنشّطين، وأحياناً كثيرة بين هؤلاء ومخرجين وممثلين وتقنيين، وبعضهم غربيّ، يُدعى إلى بيروت مثلاً رفقة فيلمٍ أو أكثر من أفلامه، ثم ينتقل النقاش من الصالة (سينما كليمنصو) إلى أحد مقاهي شارع الحمرا، القريب منها.

يحدث هذا في زمنٍ عربي يعيش غلياناً متنوّعاً في أمور الحياة اليومية وشؤونها الثقافية، المفتوحة على كلّ شيءٍ. لن يحول هذا دون تمتّع بالسينما، وبجمالياتها وأنماط صناعتها ومضامينها. التداخل بين النظريات والمعالجة والفنّ السينمائي حاصلٌ، فاللحظة التاريخية تلتقط نبض المجتمع والناس، والسينما تواكب هذا، والعالم مليء حينها بأفلامٍ تقول شيئاً من ذلك الغليان. عرض تلك الأفلام معقودٌ على نسخ سينمائية في صالات سينمائية، وهذا تفصيلٌ لن يُلغي أهمية ما يلحق بالمُشاهدة، فالنقاش أساسيّ، وطرح الأسئلة كلّها من دون استثناء مطلوبٌ، والصدام مع تزمّت وانغلاق ومُحافَظة يتقوقع إزاء سطوة السينما، وسطوة ما تحمله من تحريض على التفكير والتساؤل والبحث والتفكيك والتعرية.

أحد أسباب غياب نوادي السينما، وهذا مطروحٌ للنقاش، يكمن في التطوّر التقني الهائل، الذي يُتيح للمهتمّ، الـ"سينيفيلي" وغير الـ"سينيفيلي"، فرصة المُشاهدة المنزلية، التي ستُلغي، تدريجياً، حيوية السجال والحوار، مُلغيةً معها المفهوم الجماعي للمُشاهدة. سطوة التقنيات، وانحسار الأفكار الطامحة إلى تجديد وتغيير وإصلاحٍ، في عالم عربي منغلق على عاداته وتقاليده وثقافته الضيّقة (وهذا غير شامل الجميع)، وشيوع أنواعٍ أخرى من المُشاهدة، تُساهم كلّها (ربما هناك أسبابٌ أخرى أيضاً) في إلغاء "نادي السينما"، فكرةً وثقافة وعلاقات وحضوراً اجتماعياً.

 

 

التقنيات الحديثة تنقل المُشاهدة إلى غرفٍ، صغيرة أو كبيرة، في منازل كثيرة، جاعلةً منها (الغرف) صالاتٍ يفتخر أصحابها بامتلاكهم فعل مُشاهدة سينمائية بفضلها، مع تقنين جوانب منها تفرضه الغرف، وإنْ تكن كبيرة. لكنْ، أتكون التقنيات وحدها سبباً وحيداً لغياب نوادي السينما في مدنٍ عربية؟ أم أنّ لـ"صالات فنّ وتجربة"، المنتشرة في بعض تلك المدن بتمويلٍ من "الاتحاد الأوروبي"، دوراً في عملية الإلغاء، الذي ربما لن يكون مقصوداً؟ أتكون "صالات فنّ وتجربة" بديلاً من "نوادي السينما"، أم أنّها شكلٌ أكثر تطوّراً لها؟ أيُمكن ردّ السبب إلى تنامي القمع والرقابات والتسلّط العسكري على الحكم في بلدانٍ عربية؟ هذا من دون تناسي أنّ سينمات عربية، حديثة وقديمة، تواجه القمع والرقابات والتسلّط العسكري، بأنماطٍ شتّى من القول والاشتغال، اللذين يمتلكان حدّاً كبيراً من جمالية السينما وحيويتها السجالية، وهاتان الحيوية والسجالية مرفوضتان من القمع والرقابات والتسلّط العسكري.

يصعب تحديد سبب واضح، أو أكثر من سبب، لغياب نوادي السينما. بعد أعوامٍ عدّة على النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، تشهد بيروت نهضة لافتة للانتباه لنوادي السينما، المنبثقة من نواد وتجمّعات وحركات شبابية طالبية مختلفة، معنية بالثقافة والفكر السياسي والنضال، متنوّع الأشكال والأساليب، دفاعاً عن قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية. نهضة تولي أهمية قصوى لسينما تقترب من اهتمامات تلك النوادي والتجمّعات والحركات، ومعظم الاهتمامات مُنصبٌ على القضايا. نهضة غير معنية كثيراً بطقوس المُشاهدة السينمائية وأدواتها، فالغلبة للفكر والنضال والقضايا، ولا بأس بمُشاهدة سينمائية تعتمد تقنيات مختلفة، كأشرطة "في أتش أس" في مرحلة أولى، تُعرض على شاشات تلفزيونية.

المحاولة السينمائية الوحيدة لنادٍ سينمائي، في تلك الفترة، تتمثّل في تحويل صالة سينما "بريزيدانس"، في منطقة زوق مكايل (19 كلم شمال بيروت) إلى نادٍ سينمائيّ، بجهدٍ فردي للزميل إدي إسطا ("العربي الجديد"، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2021). أي أنّ هناك صالة سينمائية، وبثّاً سينمائياً لأفلامٍ بنسخٍ سينمائية، يجهد إسطا في الحصول عليها من موزّعين لبنانيين. تفشل التجربة لانفضاض الجميع عنها، فاللحظة تلك ترتكز على نوعين من المُشاهدة: صالات سينمائية تجارية يندر أنْ تعرض أفلاماً غير تجارية، وهذا مطلوبٌ حينها، باستثناء تجربة "متروبوليس" في بيروت؛ وأشرطة "في أتش أس"، تتيح مُشاهدة منزلية لما يحلو للمُشاهد اختياره من أفلام.

التقنيات الحديثة جوهر الحكاية كلّها. المُشاهدة السينمائية في صالة معتمة غير قادرة على التحكّم في طقوسها، رغم أنّ عرباً كثيرين، في مصر وتونس ولبنان مثلاً، غير متردّدين عن مُشاهدة أفلامٍ مصرية وتونسية ولبنانية في الصالات، بصرف النظر عن القِيَم الفنية والثقافية والجمالية لهذه الأفلام. هذا لن يكون قاعدة، فالقاعدة أنّ الغلبة للتقنيات الحديثة، وللمنصّات المنتشرة بوفرةٍ في العالم، علماً أنّ غربيين عديدين يُصرّون على المُشاهدة في صالة سينمائية، من دون تناسي التنوّع الهائل في الأنواع والأنماط والأشكال والأساليب السينمائية، التي تُقدّمها الصالات الغربية لروّادها الأوفياء.

نوادي السينما العربية؟ مجرّد ذكرى طيّبة في ماضٍ بعيد.

المساهمون