"ملفات الارتباط"... متاهة الإنترنت التي لا ينجو منها أحد

"ملفات الارتباط"... متاهة الإنترنت التي لا ينجو منها أحد

29 يناير 2021
تُستخدم ملفات تعريف الارتباط للتتبع من قبل طرف ثالث، ما يعرض الخصوصية للخطر (Getty)
+ الخط -

قبل سنوات، أثقلت العديد من مواقع الإنترنت كاهل زوّارها بخيارات معقدة لا تنتهي، إلى أن عثرت في السنوات الأخيرة على الحل السحري الذي لن يفلت منه أحد: "ملفات الارتباط" أو "الكوكيز" Cookies التي باتت الموافقة عليها اليوم شبه إلزامية لما يقرب من 75 في المائة من المواقع على شبكة الإنترنت حول العالم، وهو ما يفسره الخبير الإنكليزي هاري برينّول: "هذا متعمّد لجعلك تقبل بشروط جائرة".

منذ عشر سنوات كاملة، صاغ هاري برينّول مصطلح "الأنماط المظلمة" Dark patterns، واستطاع، بخبرته في عالم الإنترنت، وضع نظرية كاملة حول أنماط التصميم التي من شأنها أن تجعلك تفعل شيئاً لا تريده في الواقع. صاغ المصطلح عام 2010، بعد أن أراد شراء تذكرة طيران على موقع Ryanair، وحينها وجد أن شركة الطيران تقدم لعملائها نموذج تأمين السفر الخاص بهم، محتوياً على بنود تخترق خصوصيتهم.

التتبّع الرقمي

في سبيل مواجهة هذه الظاهرة الإلكترونية، أنشأ هاري برينّول، الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم المعرفية، موقعاً إلكترونياً عنوانه Darkpatterns.org، كرّسه لفضح وتسمية الشركات والمواقع الإلكترونية التي تستخدم واجهات خادعة، وعلى رأسها شركات "آبل" و"فيسبوك" و"تويتر" و"أمازون"، على أمل أن يحث هذه الشركات العملاقة على احترام خصوصية عملائها وبياناتهم الشخصية.

لكن هذا لم يحدث، بل على العكس من ذلك، أصبحت ظاهرة إجبار زوار هذه المواقع والشركات على قبول "ملفات الارتباط" شرطاً للتمتع بمحتوياتها، وهو ما يكشفه في حواره مع صحيفة "ده مورخن" البلجيكية الفلمنكية قبل أيام. ويشير إلى أن نظام "ملفات تعريف الارتباط - الكوكيز" معمول به منذ عام 2012، ومن خلاله يعرف أصحاب هذه المواقع من أين يأتي زوارهم، والصفحات الأكثر شيوعاً على مواقعهم، كما يمكنهم هذا النظام من تتبّع الأفراد عبر الإنترنت، ليتمكنوا من تصميم الإعلانات المناسبة لهم بشكل أفضل. لذلك توصلت العديد من مواقع الويب إلى طريقة فعالة جداً لهذا الغرض، وهي إرغام زوارها على قبول جميع ملفات تعريف الارتباط دفعة واحدة، والمتضمنة لشروط الاستخدام، وإلا فلن يتمكنوا من الاستفادة من محتويات الموقع أو الوصول إليها.

ووفقاً لبرينّول، الخبير في مجال تصميم واجهات المستخدم، تثقل هذه الشركات كاهلك بالخيارات المعقّدة، عندما تريد أن تجعل من الصعب عليك اتخاذ قرار ما، لذلك يقبل غالبية الناس بالنقر على الزر الأخضر الكبير "قبول الكل". ويوضح قائلاً: "يشبه الأمر التصميمات التي تعرف جيداً كيفية التلاعب بالناس الذين لا يحبون الدخول في العمليات الطويلة والمعقدة. فتقوم بعض هذه المواقع مثلاً بإنشاء خطة شاملة ومعقدة خطوة بخطوة للعملاء الذين يرغبون في حذف حساباتهم، وللهروب من هذه المتاهة المتشابكة، يختار أغلب المستخدمين الموافقة على "شروط الاستخدام" من دون أن يقرأوها أو يهتموا بفهم ما جاء فيها".

كذلك يحيلنا في حواره إلى الاستخدام الأكثر شيوعاً اليوم على الإنترنت، وهو أن يكون لديك أزرار ساطعة وخضراء للاختيارات التي يريد المصمم تشجيعها، وأزرار رمادية غير مرئية تقريباً للخيارات غير المرغوب فيها. فيقول: "فكر في كل مرة كنت تبحث فيها عن زر (إلغاء الاشتراك) في بريد إلكتروني للمبيعات ولا تعثر عليه، هذا نمط مظلم. كما ستجد العديد من الأمثلة عبر الإنترنت، بدءاً من حيل تسهيل الاشتراك في خدمة ما، ولكن يكاد يكون من المستحيل إلغاء الاشتراك فيها، وهو ما سماه Roach Motels، وصولاً إلى نمط Privacy Zuckering، وهي التقنيات التي تجعلك تشارك بياناتك الشخصية واستخدامها من قبل الموقع ومعلنيه رغماً عن إرادتك.

الأغلبية الجيّدة

التحكم في السلوك البشري من خلال خيارات تصميم هذه المواقع، أو ما يسمى بـ "التنبيهات"، ليس بالأمر الجديد، فهو يحدث في العالم المادي كل يوم. وأكبر مثال على هذا ما نجده في لافتات الفنادق التي تفيد بأن "معظم" الضيوف يستخدمون مناشفهم عدة مرات، أو لافتات نجدها في الحمامات العامة تقول "الرجاء مراعاة ترك المكان نظيفاً بعد استخدامك له". كلها لافتات تحض الناس على أن يكونوا جزءاً من "الأغلبية الجيدة". ولأننا جميعاً نريد أن نكون ضمن هذه الأغلبية، نقبل بما تقترحه علينا هذه اللافتات، إلا أن الواقع المعاش يختلف كثيراً عن "الواقع الرقمي" حيث نكون مقيدين في البيئات الرقمية بالإمكانات التي يقدّمها لنا مصممو هذه المواقع، لذلك كان لزاماً عليه أن يدافع عن نظريته لإجبار هذه المواقع والشركات على استخدام ما أطلق عليه "الخصوصية الافتراضية" كمبدأ رئيس في تصميمات المواقع التي تمكنهم فقط من جمع البيانات الضرورية عن عملائهم لأداء خدماتهم.

علم السلوك البشري

لكن يبقى السؤال قائماً: ما هي الأنماط المظلمة الأخرى التي تستخدمها هذه الشركات والمواقع؟ بحسب نظرية بريغنول: "النمط المظلم هو واجهة مستخدم مصممة بعناية لخداع المستخدمين للقيام بأشياء قد لا يفعلونها بطريقة أخرى". لذلك فقد تم تصميم هذه الأنماط بعناية اعتماداً على فهم عميق لعلم النفس البشري. وهو ما يشرحه برينّول في حواره قائلاً: "غالباً ما يتم استخدام هذه الأنماط في عمليات الشراء أو الاشتراكات المدفوعة، بداية من إغراء المستهلكين بتخفيضات غير صحيحة في الأسعار، وصولاً إلى وضع منتجات إضافية على قائمة مشترياتهم من دون أن يطلبوها".

ويربط بين فكرة "الأنماط المظلمة" وبين علم النفس، قائلاً: "أصحاب هذه الشركات فهموا قوة وتأثير علم السلوك البشري جيداً، لذلك أصبح من الشائع اليوم بالنسبة للشركات الكبرى في مجال السوشال ميديا أن توظف علماء نفس وباحثين متخصصين في سبيل هدف واحد، هو زيادة المبيعات". لكل ما سبق، قسّم بريغنول الأنماط المظلمة إلى عدد من الظواهر. من بينها نمط "المتاهة"، ويحدث عندما يجد المستهلك قد أدخل نفسه في موقف سهل، لكنه يجد صعوبة في الخروج منه. مثلاً حين يحاول المستخدم إلغاء اشتراكه في خدمات الموقع أو الشركة مثلاً، أيضاً هناك نمط "الأسئلة المخادعة": "عندما تملأ نموذجاً وتنشغل بسؤال يتم طرحه بطريقة مخادعة، فتصبح الإجابة عنه بـ"لا" لا تعني سوى "نعم"، وكلها طرق تستخدم الإكراه والتشويش والإلهاء والمقاطعة والتعتيم لخداع الناس".

تكنولوجيا
التحديثات الحية

ولتوضيح الأمر يضيف: "رسائل البريد الإلكتروني التسويقية تستخدم أسلوب "الأسئلة الخادعة" طوال الوقت، فبعد التسجيل للوصول إلى شيء ما على الويب، يتم سؤالك عما إذا كنت تريد أن يتم إدراجك في قائمة بريدية لتلقي أخبار الموقع، وحين تسجل عنوانك البريدي، تحصل جميع العناوين الإلكترونية المسجلة لديك على إعلانات الموقع ذاته". كذلك يشير في حواره إلى ظهور أنواع جديدة كل يوم من "الأنماط المظلمة"، إذ لاحظ أخيراً استخدام "الخلط" لإرباك المستخدمين عندما يقومون بقراءة صفحة ما، فإذا قرأت العناوين فقط، تحصل على إعلان واحد، أما إذا قرأت الصفحة كلها بعناية، فسوف تصلك إعلانات مختلفة تماماً.

ويضرب مثلاً آخر من شركة "آبل" فيقول: "عندما أصدرت آبل نظام iOS 6، كانت إحدى الميزات الجديدة القليلة التي لم تعلن عنها الشركة بحماس آنذاك، هي نظام (تتبع المستخدمين)، والمعروف اختصارا بـ IDFA، حيث خصصت آبل لكل جهاز تنتجه معرّفاً فريداً يستخدم لتتبع نشاط التصفح والمعلومات التي يستخدمها المعلنون لاستهداف زبائنهم، وحين بدأ اللغط حول هذه الميزة، قامت الشركة بتضمين طريقة لتعطيل الميزة، ومع ذلك، لن تعثر على أداة التعطيل هذه ضمن إعدادات الخصوصية، وكي تصل إليها، سيكون عليك المرور بسلسلة من الخيارات الغامضة في قائمة الإعدادات العامة، تلك القائمة التي تضم في الأساس مجموعة من الأشياء المتنوعة التي لم يعرفوا ماذا يفعلون بها، فوضعوها تحت هذا المسمى العام، ستجد في نهايتها تحت خانة about ووسط بنود الخدمة وعناصر الترخيص، عنصر باسم الإعلان، وستجد أن الخيار الوحيد المتاح لك هو التأشير لإيقاف "الحد من تتبع الإعلانات"، لكن عندما تفعل، فأنت في الحقيقة تقوم بتشغيل تتبع الإعلانات بالفعل، أي أن كلمة إيقاف هنا صار معناها تشغيل، وهو أكبر أمثلة الأنماط المظلمة التي تستخدمها اليوم آلاف المواقع الإلكترونية".

المساهمون