معهد الموسيقى العربية في برلين: في المدينة متّسعٌ للغناء

معهد الموسيقى العربية في برلين: في المدينة متّسعٌ للغناء

02 مايو 2021
يتوجه المعهد نحو العرب وغير العرب الموجودين في برلين (العربي الجديد)
+ الخط -

وكأنّ العاصمة الألمانية، خلال السنين العشرين الأخيرة، ظلت تسير بعناد عكس اتجاه المزاج السائد. لجهة أنّها ما زالت تسعى إلى أن تكون لها ولنمط المعيشة فيها سمة الكونية، وأن تبقى مُنفتحة على التعددية الثقافية، وإن على مستويات تبدو متباينة، منها النوعي العميق، ومنها أحياناً الكمّي، الدعائي السياسي والسطحي. لكنّ برلين، في كلتا الحالين، تبرُز اليوم، في عتمة السحب الهويّاتية والشعبوية والنزعات الانعزالية المقلقة، الحاضرة الكوزموبوليتية الأكثر إشراقاً وإصراراً طوباوياً على التمسك بالانفتاح والاضطلاع بدور المدينة الأثينية، حبّ سقراط وحلمه، والحصن المنيع للعالمية.

من هنا، كان لا بدّ لبرلين، عاجلاً أو آجلاً، من أن تحتضن مشروعاً واعداً بتأسيس أول معهد للموسيقى العربية، يُموّله بصورة جزئية برنامج "إقلاع" (Durchstarten)، وهو واحدٌ من عدة برامج تُطلقها مؤسسة "المِنَح البرلينية لدعم مشاريع التربية الثقافية" (Berliner Projektfonds Kulturelle Bildung)، فيما يقوم عليه، إدارةً وتدريساً، شبابٌ سوري طموح من بين جالية عربية تُشكل اليوم ما يزيد على أربعة في المائة من مجمل سكان المدينة، وجزءاً حيوياً من حراكها الفني والثقافي.

يتوجه المعهد بزاوية منفرجة، أولاً، نحو العرب الموجودين في العاصمة الألمانية، ممن قد يسعى إلى أصر الصلة موسيقياً مع التراث العربي. وثانياً، المجموع الواسع والمتعدد من البرلينيين، أكانوا مواطنين ألماناً، أم مقيمين ومهاجرين، ممن لديهم الشغف، أو حتى الفضول، حيال اكتشاف الموسيقى العربية، سواء بتعلم واحدة من آلاتها الرئيسية التي تُتيحها دروس المعهد العملية، وهي العود والقانون والناي والكمان والإيقاع، أو بالمعرفة النظرية، من طريق تعلّم المقامات والإيقاعات والقوالب الشرقية.

لئن تزامن افتتاح المعهد بصورة رسمية، في أول إبريل/ نيسان الماضي، مع رزوح المدينة تحت إجراءات إغلاق جديدة تطلبتها مواجهة مستمرة لموجة ثانية من الجائحة العالمية كوفيد-19، فقد انطلق أول النشاطات والفعاليات رقمياً على الإنترنت، وذلك تقيّداً بقواعد التباعد ومنع التجمهر والتجمع، التي بات يألفها الجميع وأمست من عاديات الحياة.

عن معهد الموسيقى العربية في برلين، عن وجهته ومستقبله، كان لنا حديث مع مديره، العازف وأستاذ العود والملحن نبيل أربعين، وعازف الكمان وأستاذه والباحث الموسيقي زاهر القاعي.

في مدينة باتت تُعد إحدى الكوزموبوليتيّات الأكبر والأهم في العالم، التي تؤوي العديد المتنوع من الجاليات من كلّ أنحاء العالم، كيف يرى نبيل معهد الموسيقى العربية، حديثِ الولادة، دوراً راهناً ومستقبلياً في تعزيز التعددية الثقافية التي يُباهى بها اليوم خصلةً برلينية؟ نسأل نبيل أربعين، ليجيب:

"توجد جالية عربية كبيرة في برلين، وأصبحت هذه الجالية أكبر بعد عام 2015. لكنّنا أحسسنا بأنّ تمثيلها الثقافي لا يتناسب مع حجمها. فالفعاليات الموسيقية تقتصر على أداء الحفلات وبعض الدروس المقدمة من بعض الأساتذة. لهذا، ارتأينا إنشاء منصة لتقديم فرص تعليمية متخصصة بالموسيقى العربية للبرلينيين، سواء من العرب أو من غيرهم، وهي متوافرة أساساً باللغة العربية والألمانية والإنكليزية، بالإضافة إلى لغات أخرى لبعض الآلات. ونحن نرى أنّ هذه المنصة إضافة وتمثيل حقيقي لتنوع سكان المدينة الثقافي".

ارتأينا إنشاء منصة لتقديم فرص تعليمية متخصصة بالموسيقى العربية للبرلينيين، سواء من العرب أو من غيرهم

يضيف: "وكما أنّ الحاجة إلى هذا المعهد متوافرة، فإنّ عناصره أيضاً كانت مكتملة من خلال توافر مدرسين ومدرسات بحاجة إلى منصة تساعدهم على تقديم دروسهم وخبراتهم، إضافة إلى كونها ملتقى الفنانين ومجال تنسيق مشاريع جماعية وورشات عمل من أجل توثيق النشاط الفني الغني والمميز لفناني هذه المدينة وفناناتها. كذلك إنّ المعهد - إلى جانب كثير من المعاهد الموسيقية في المدينة - يغطي الحاجة التعليمية لكلّ الأعمار ولكلّ الجنسيات".

وعند الحديث عن تنوع المشهد الثقافي في برلين، نتساءل: كيف يمكن المعهد الحديث إبراز الخصائص الجاذبة للموسيقى العربية، وذلك ضمن تنوع أخصّ داخل الموسيقى الشرق أوسطية ذاتها من تركية وفارسية وغيرها، مع الأخذ بالاعتبار مثلاً وجود جالية تركية وإيرانية، كبيرة وعريقة ومتجذرة، سواء في عموم أوروبا أو ألمانيا بعاصمتها برلين على وجه التحديد.

هنا، يجيب زاهر القاعي: "لا شك في أنّ تنوع المشهد الثقافي في برلين ميزة كبيرة لهذه المدينة، لكنه قد يشكل تحدياً في الوقت نفسه. فقد يسأل سائل عمّا إذا كانت المعاهد الموسيقية ومدرسو الموسيقى التركية والفارسية ومدرساتها يغطون بالفعل ما يُسمى الموسيقى العربية من خلال نشاطاتهم، ولا سيما أنّ هذه الموسيقات (تركية، فارسية، عربية) تُجمَع تحت مصطلح الموسيقى الشرقية (oriental music)، الذي رغم ارتباطه الواضح بالكولونيالية والفكر الأوروبي المركزي، بات يستعمل من قبل أبناء هذه الثقافات أنفسهم، نظراً لشيوعه".

يوضح القاعي: "مع ذلك، هنالك قواسم مشتركة بين هذه الموسيقات، بالإضافة إلى موسيقات أخرى، كالكردية والسريانية والبيزنطية واليونانية والأمازيغية وغيرها. إلا أنّ خصائصها تضيع عند جمعها، تبسيطاً لها، تحت مسمى موسيقى شرقية، علاوة على ارتباط المصطلح بموسيقى الآخر، وظاهرة الأخرنة في الفكر الأوروبي".

أتت فكرة المعهد بتقديم وجهة نظر الموسيقى العربية بوصفها أحد مكونات شبكة الموسيقات الشرقية

يضيف: "انطلاقاً من ردّ فعلٍ إزاء رؤية كهذه، أتت فكرة المعهد بتقديم وجهة نظر الموسيقى العربية بوصفها أحد مكونات شبكة الموسيقات الشرقية تلك. مكونٌ، له أيضاً ما يميزه، من حيث أساليب الأداء والتأليف واستخدام المقامات. بالإضافة إلى الاختلاف البديهي للغات التي تغنى بها هذه اللهجات الموسيقية إن صحّ التعبير".

لافتٌ حضور أساتذة من غير العرب ضمن طاقم المُوجّهين الذي يقدم الدورات من دروس وورش. هناك الآنسة الإيطالية فالانتينا بيلّانوفا Valentina Bellanova أستاذة الناي، والياباني شنغو علي ماسودا Shingo Ali Masuda أستاذ آلة القانون. في هذا السياق، يوضح لنا نبيل أربعين، بخصوص ما إذا كان اختيار تلك الكوكبة المتنوعة ثقافياً ضمن مؤسسة ثقافية مختصة نابعاً من معايير مهنية خالصة، أو ثمة رسالة ذات بعد عالمي، أو كوني، يوجهها المعهد من خلالها، بقوله: "نحن نرى أنّ الموسيقى العربية ليست حكراً على العرب، بل هي تراث وفن إنساني بالدرجة الأولى، وبالتالي إنّ الشخص القادر على تدريسها موضع ترحيب في المعهد".

يضيف: "كذلك إنّ وجود أساتذة غير عرب، عنصر تشجيع للطلاب والمهتمين من خلفيات غير عربية، إذ إنّهم يروون أمثلة عملية عن موسيقيين وموسيقيات لم يولدوا في بلدان عربية، ومع ذلك تعلموا هذه الموسيقى إلى درجة إتقانها وتدريسها".

يتابع: "كذلك، إنّ تشكيلة المدرسين، التي جاءت بشكل عفوي نتيجة لتنوع مدينة برلين، تعكس رؤيتنا بأنّ الهوية مفتوحة على التعددية الثقافية، وليست ذات بعد واحد. وهي سمة أساسية لعالم اليوم".

في منتصف الشهر الماضي، أدار زاهر القاعي ورشة عمل شبكية (Webinar) على الإنترنت، حتّمتها ضرورات الإغلاق بحكم استمرار الجائحة العالمية، حيث قدم من خلالها عرضاً علمياً، تأريخياً وتفصيلياً شاملاً عن الموسيقى العربية وتمظهراتها في فروع وأجناس موسيقية وفنية أخرى.

تشكيلة المدرسين تعكس رؤيتنا بأنّ الهوية مفتوحة على التعددية الثقافية، وليست ذات بعد واحد

هنا، نتساءل عن طبيعة المشاركين: هل جلّهم من الشرق الأوسط، أم أنّهم متعددو الهويات والجنسيات؟ وما مدى تنوع رواد المعهد من حيث الأصول والمشارب، والاهتمامات والاختصاصات؟ وهل من شأن ذلك أن يفرض أي تحديات تذكر على الموجّهين؟

يقول القاعي: "من خلال عيشنا ومشاركتنا في كثير من المشاريع الموسيقية في ألمانيا، لاحظنا وجود بعض الأفكار غير الواضحة عن الموسيقى العربية، أو حتى غياب أيّ فكرة بصورة كلية. لذا، جاءت ورشة العمل لتقديم مجموعة من المعلومات والمفاهيم الأساسية المتعلقة بها، وذلك بنيّة تقديمها كشبكة علاقات بين مجموعة متنوعة وكبيرة من الممارسات الموسيقية والغنائية. فالموسيقات، رغم ما يُميزها، تمتزج وتتفاعل. وعليه، سعت ورشة العمل إلى تحدي فكرة الموسيقى العربية ككيان ساكن (static) ومعزول (isolated) عن التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم".

يتابع: "أما تنوع المشاركين، فإنما يعكس تنوع برلين. منهم مَن له خلفية شرق أوسطية؛ متمرسٌ في الموسيقى ويرغب في سبر هذا النشاط الثقافي. ومنهم شرق أوسطيون، لكن ليسوا موسيقيين، بل يودون مجرد الاطلاع على موسيقاهم بشكل علمي ومنهجي. بالإضافة إلى موسيقيين من غير الشرق أوسطيين (معظمهم أوروبيون)، من المقيمين في برلين ممارسينَ لأنماط أخرى، كالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية أو الجاز وغيرها، لكنهم مهتمون بالمعهد وبالتعرف إلى الموسيقى العربية، إما بغية توسيع ثقافتهم الموسيقية، أو حتى بنيّة تعلم طرق وأساليب عزف الموسيقى العربية، ولا سيما بعدما نشط كثير من المهاجرين السوريين، عبر فعاليات موسيقية وفنية متنوعة".

المساهمون