مسرحية "مورفين" ليحيى جابر: العلاج بمسرحة الأوجاع

مسرحية "مورفين" ليحيى جابر: العلاج بمسرحة الأوجاع

20 فبراير 2024
"مورفين" هي قصة جيلين مع مرض السرطان (فيسبوك)
+ الخط -

جمعنا عنوان واحد نحن الثلاثة. بطلة المسرحية ومخرجها وكاتبة هذه السطور، قبل أن تهمس سيدة جالسة بقربي في صالة مسرح مونو أنها أيضاً زميلتي في نادي الناجين من مرض السرطان. سألتها مع ابتسامة ساخرة: "أهذا مسرح المستشفى أو مستشفانا المسرحي"؟

المونودراما تكاد تكون تراجيديا. الليلة شباطية دافئة وكان لنا موعد مع المخرج المسرحي يحيى جابر في قلب الأشرفية في شرق العاصمة اللبنانية. في التوقيت، وقبل أن أخوض في المضمون، هي رسالة تحدٍ. لا أحد يستطيع أن يُقيّد المسرح ولا الفن. حتى الموت الذي حوّلته إسرائيل زناراً لكل يومياتنا لا بد من كسره. وهل من سلاح أفضل من سلاح الفن. تصبح مهمة يحيى جابر مضاعفة، عندما يتحدى أيضاً هذا الموت البطيء لكل شيء جميل في لبنان منذ أربع سنوات تقريباً. وحده هذا التحدي يستحق التحية. فقد قرر يحيى أن يعرض ثلاث مسرحيات في آن واحد. "مورفين"، بطولة سوسن شوربا، و"من كفرشيما للمدفون"، بطولة ناتالي نعوم، والثالثة هي مسرحية "مجدرة حمرا"، العائدة للخشبة مع بطلتها أنجو ريحان.  

سأكتفي بالحديث عن "مورفين"، مسرحية تلامس تجربتي الشخصية مع داء عضال ولا أعرف إن كان بمستطاع الجمهور الباقي الذي لم يتعرض لهذه التجربة الوجودية أن يُشاطرني ما شعرت به ولو بطرق مختلفة. ما يمكن أن أكون متأكدة منه أن الأشخاص الذين يخضعون للمعاناة تكون حياتهم عبارة عن "ما قبل وما بعد السرطان".

هي مونودراما إنسانية (وربما نسائية) بإمتياز، مُغمّسة بالكوميديا السوداء الساخرة، و"بطلتنا" واحدة هي الممثلة سوسن شوربا؛ الموهبة الفنية الجديدة التي انسابت جملها البطيئة بهدوء متفجر. راحت تسرد لنا حوارات عن شخصيات غائبة تقنعنا بما تقوله في عزلتها النفسية وخلوتها العميقة بالجمهور.

للمناسبة، يحيى جابر صار يرمز إلى مدرسة في التمثيل توغل في الواقعية بكل ما يُمكن أن تحمل إلينا من صور وعبارات قاسية، ولكنها معيوشة، سواء في هذه البيئة أو تلك لبنانياً، من دون أن يغادر الفضاء الإنساني العام كما هو الحال مع "مورفين"، فضلاً عن سهولة تعامله مع ظاهرة الممثل الواحد الذي يحمل العمل على عاتقه ويعقد الصلة بالجمهور، وهنا كانت سوسن شوربا مفاجأة من "العيار الثقيل".

المونودراما لها إرثها وحضورها عربياً، ويُسجل للعراقي يوسف العاني (توفي عام 2016)، أنه أحد مؤسسي المونودراما العربية من خلال عملين هما "جبر الخواطر" و"مجنون يتحدى القدر" التي كتبها عام 1949 ومثّلها بنفسه على مسرح معهد الفنون الجميلة في مطلع العام 1950. أما أول نص مسرحي عربي مونودرامي فهو نص "ابن زيدون في سجنه"، للشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي، الذي نشره في مجلة البعثة الكويتية في العدد الثاني الصادر في فبراير/ شباط 1954. في سورية دخلت المونودراما على يد المخرج الراحل فواز الساجر بعرضه المونودرامي "يوميات مجنون"، عن نص لغوغول أعده الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس ومثله أسعد فضة. ويعد الممثل الفلسطيني زيناتي قدسية أشهر من اشتغل على عروض المونودراما وارتبط اسمه بها، فقد قدم مسرحيات "الزبال" و"القيامة" و"حال الدنيا" و"أكلة لحوم البشر"، وكلها للراحل ممدوح عدوان، أما في لبنان فقد ارتبطت المونودراما بالممثل المسرحي رفيق علي أحمد، الذي قدّم عدداً من العروض ضمن مسرح الحكواتي ("الجرس"، "جرصة".. إلخ).

بالعودة إلى الموضوع، ندخل قاعة مسرح "مونو" مشحونين بقضية غزة لتأخذنا الحكاية الجديدة مع سوسن شوربا إلى لهجة فلسطين المألوفة كونها استوطنت قلوبنا وحياتنا لفترة طويلة من الزمن ولا تزال، والأهم أنها تخرج من سياق ما عودنا عليه يحيى جابر من تشريح للواقع اللبناني بطوائفه المتناحرة وإن عرّج على واقع الفن الهابط من خلال إحدى الشخصيات (عباس جعفر في مسرحية "هيكالو"). 

"مورفين"، هي قصة جيلين مع مرض السرطان، الخالة سهير وابنة الأخت سوسن. شخصيتان تلعبهما سوسن شوربا بلكنة محببة جداً وبتوغل إلى أعماق جسد سوسن الهش الذي اجتاحه مرض السرطان. كان النص تشريحاً حاذقاً للأسباب العميقة في تاريخ امرأة حافل بالخيبات. 

لقد بدت لافتة جداً للانتباه من خلال المونولوغ، شخصية يحيى جابر الصحافي المثقف الملم بتفاصيل وتاريخ بيروت الفني والسياسي في مرحلة النكبة الفلسطينية (1948)، وأثرها في حياة الفلسطينيين واللبنانيين على حد سواء. منذ وعد بلفور السيئ الذكر مروراً بإفلاس بنك إنترا وصولاً إلى الخالة سهير المنكوبة برجال دهسوا كرامتها وهي السيدة المنهوبة بإرادتها، ما أوصلها إلى الجنون الفعلي.

وجابر المخرج يستمع ويقرأ جيداً ما يُكتب عن أعماله ولا يثمل بالنجاح المستحق، وأظنني ممن نصحوه بالقفز بنا إلى موضوعات جديدة. ولقد فعلها بجدارة وخرج من مستنقع الطوائف اللبنانية وإجترار مشاكلنا والتهكم الكوميدي الساخر عليها.

تبدأ المسرحية بلسان هازئ في كل الاتجاهات تعبيراً عن سلسلة من الخيبات يتولى تخليقها الرجال الذين زرعوا في ذاكرة جسد الخالة ما نبت في جسد سوسن ابنة الأخت.

لقد ورثت سوسن جينات القهر الذي زرع سرطاناً في أثداء العائلة. حكاية الإنسان منذ الأزل مع الخيانة الزوجية والاستغلال المادي وطمس الشخصية النسوية والتسلق والانتهازية، حتى أن زوجها دهسها في العتمة من حولها وفي الصعود على أنقاض كرامتها وكفاءتها وكل ما هو إنساني وجميل فيها.

ينكب الكاتب على نبش الجذور النفسية للمرض الوحيد الذي يختلقه الجسم.

وبينما تتناوب الممثلة الحساسة سوسن شوربا بين شخصيتي الخالة وابنة الأخت، إلا أن الأهم هو التنقل في الحالات. من الدراما إلى الكاريكاتير الكوميدي بليونة وحذاقة لافتة للانتباه وبحركة جسدٍ خفيفة لا تشبه حالة من يخضعون للعلاج الكيميائي. أظن هنا أنه يُسجل لسوسن الممثلة أنها تحدثت عن وهن جسدها وتحملت عبء الخشبة والجمهور ببراعة. تقول سوسن "أعطاني المرض فرصاً لأكون قوية وسعيدة وقادرة على صنع الكثير مما لا تمنحه الحياة لغيري".

ولكن كنت لأتساءل عما كانت لتكون عليه أحوالي فيما لو امتلكت الصحّة هل كنت مطابقة لصورة سوسن التي هي اليوم؟

المسرح خشبة خلاص لسوسن شوربا وشاهد على مولد نجمة جديدة، أما يحيى جابر الذي أحسن استخدام النص والشخصية فوصل إلى نقاط الإحساس العميقة عند الجمهور، فقد كرس نفسه كركن أساسي من أركان المسرح اللبناني في هذه الحقبة الزمنية من عمر الفن وتاريخه.

يقول قسطنطين ستانيسلافسكي، المخرج الروسي الكبير، ما معناه "أن لا فائدة من مسرح لا يستطيع أن يجعلك شخصاً أفضل". ونحن أغلب الظن، بعد السرطان وبعد المسرح، خرجنا بصورة أفضل.

المساهمون