محمد منير... على يسار الأغنية وليس على يسار السلطة

محمد منير... على يسار الأغنية وليس على يسار السلطة

14 يوليو 2023
كان محمد منير منفتحاً على تجارب وموسيقى مختلفة (Getty)
+ الخط -

لم يُستثن محمد منير (1954) من موجة نقد وجهت إلى المغنين المصريين الذين ظهروا على مسارح السعودية في الآونة الأخيرة. انتقاد منير جاء لمجرد الظهور هناك، فللفنان وضع خاص لا يقاسمه فيه نجم آخر على الساحة الغنائية. هذا الوضع غلّف نقداً موجهاً إليه بالأسى والإحباط، وربما بالسخرية.
المكانة المميزة لمنير جعلت الجمهور أكثر حساسية بخصوصه، لتعدد الصدمات وتكرر الإحباطات. ولم يكن أول الإحباط يوم غنى أمام الرئيس المخلوع حسني مبارك (1928 - 2020) في حفل للقوات الجوية عام 2009، ولا آخره حين أطلق أغنية "أبطال رجالة" احتفالاً بعيد الشرطة في 25 يناير/ كانون الثاني 2021.

هذه المقدمة لا تأتي في سياق إدانة منير أو الدفاع عنه، فغرضها الوحيد هو الفهم الذي يستلزم بطبيعة الحال تناول سيرة النجم منذ ظهوره الأول شاباً مفعماً بالحيوية، لا تنقصه الطلة الجذابة، وتحرضه عفويته على ألا يشبه أحداً، في حديثه وحركته وغنائه.

حين ظهر منير للمرة الأولى كان بصحبة أسماء مثل عبد الرحيم منصور وأحمد منيب ومجدي نجيب وزكي مراد. احتضن هؤلاء الأعلام، أصحاب الميول اليسارية، مشروع منير الفني، إذ قدموه إلى أوساطهم، بعدما حمّلوا صوته المبشر بلون غنائي جديد كلماتِهم وألحانَهم. هنا أيضاً، يشير هاني شنودة، الذي قدم منير، إلى أنه وجَّهَ النجم الشاب إلى المساحة السياسية الاجتماعية، على اعتبار أنها الأنسب لمنير، خلافاً لاسم مثل عمرو دياب الذي وجهه، وهو مكتشفه، إلى الأغنية التجارية الخفيفة.

تقدُّم منير في هذا المسار كان توجيهاً فنياً حرّض عليه الرفاق، وإن ناسب شخصيته وتطلبه نجاحاً أملى عليه أن يقدم لوناً مغايراً يتفرد به، وبغيره ربما تعذر النجاح، بسبب ما اشتكى منه مطربنا في بداياته من تجاهل وعنصرية مورسا ضده، وأرجعها للونه ولمظهره "شعره الكنيش" الذي لم يتناسب وصورة النجم مثلما تصوّرها ذوق الطبقة الوسطى آنذاك، لهذا كان عليه أن يختار لنفسه مضماراً غنائياً لا يزاحمه فيه أحد.

في تلك الآونة، استعدت الساحة الفنية لطي صفحة عصر تسلطت عليه أغنية رئيسية، قدمتها أسماء مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد وعبد الحليم ونجاة الصغيرة وصباح وفايزة أحمد. جاءت تنويعات على هذا الخط الرئيسي، ليحكم الساحة الغنائية في ديكتاتورية لم تسمح حتى للأغنية الشعبية، كما قدمها محمد قنديل ومحمد عبد المطلب، وصولاً إلى أسماء مثل محمد العزبي ومحمد رشدي، بالخروج عن تلك المظلة.

اختلف الأمر منذ أواخر السبعينيات، إذ أخذ المشهد يتسع بين الألوان الغنائية لتتعدد، وينعكس هذا على ذائقة الجمهور التي تمايزت بشكل أكثر وضوحاً. فعلى سبيل المثال، إلى جانب الأغنية الشعبية التي غناها العزبي ورشدي، برزت أغنية مثل التي قدمها محمد عدوية وكتكوت الأمير.

هذا التنوع جاء انعكاساً لتمايز اجتماعي أذِن الانفتاح بحدوثه، حين شجع التوجه الاقتصادي الجديد نزوعاً للاستهلاك يتطلب تنوعاً أكبر وانفتاحاً أوسع على العالم. ولأن منير لم يكن مؤدلجاً، فقد تململ من موقعه متى تمدد هذا التمايز وصار أكثر وضوحاً.

رغب منير في أن يصل بفنه إلى فئات أخرى، ولا يظل قاصراً على فئة "المثقفين"، كما صرح هو في أكثر من مناسبة، ليتقدم بحذر بألبومي "افتح قلبك" (1994) و"ممكن" (1995)، ثم اتسعت خطواته مع ألبوم "من أول لمسة" (1996)، لتتصدره أغان كانت غريبة وقتها على ذوق جمهوره، مثل "قلبك على قلبي" و"بالحظ وبالصدف" و"عمر عيني"، ويتعاون من خلال الألبوم ولأول مرة مع أسماء مثل مصطفى كامل وعصام كاريكا.

قد يفضّل القارئ المحب لمنير أن يؤكد هنا على نزوع النجم أكثر من غيره إلى التجريب، الأمر الذي جعله منفتحاً على تجارب وموسيقى مختلفة، فانتظم في إطار تلك النزعة ضمه مبكراً لموسيقيين أجانب في فرقته (رومان بونكا وإدغار هوفمان)، وانفتاحه على موسيقى شمال أفريقيا، إذ قدم مع الفنان الجزائري حميد برودي "حكمة الأقدار" و"سيدي".

كل هذا حرض منير على الابتعاد، ولو قليلاً، عن وسط نشأ ودرج فيه فنياً وتأثر برجاله ثقافياً، لكنه لم ينتم إليه عقائدياً. كان التصاقه زمناً باليسار توجهاً فنياً أكثر منه انتماءً سياسياً، لذلك لم يتعذر عليه عندما اقتضى الحال أن يغادر موضعه، لكن من دون أن يغترب عن موقعه، بمعنى أنه تحرك محاولاً ضم فئات جديدة إلى جمهوره، من غير أن ينفصل عن تاريخه الفني.

هناك عامل آخر وراء تململ منير، فلسنوات طويلة اشتكى من أن لونه الأسمر أخر مسيرته كثيراً، وأن الإعلام تجاهله ونظر إليه باعتباره مطرب المثقفين، ما جعله رغم النجاح الكبير في حالة قلق دائمة، ليصرح في سنة 1999 أنه سيهاجر إلى ألمانيا التي أقام فيها العديد من حفلاته. هذا الشعور بالاضطهاد وذلك القلق، جعلا منير يُقبل على توثيق علاقته بالسلطة التي بدأت (بشكلها العلني على الأقل) حين غنى في حفل افتتاح متحف النوبة في حضور مبارك عام 1997. وتكرر الأمر في احتفال القوات الجوية بمناسبة عيدها في 2009، ليتردد كذلك، وإن لم تتأكد المعلومة، أن أغنية "إزاي" التي تلقفها شباب الثورة واعتمدوها في ميدان التحرير، كانت في الأصل موجهة إلى حملة ترشيح جمال مبارك في انتخابات الرئاسة، ثم عند انطلاق ثورة 25 يناير جرى تعديل كلماتها وإذاعتها. وينتظم ضمن هذا التوجه تصريحات منير المؤيدة للنظام الحالي، ليشعر عدد من محبيه أنه ابتعد عنهم، وإن لم يحجزهم ذلك عن متابعته، لكن بحماس قل كثيراً.

لم تكتب، تلك السطور، كما أشرنا، لإدانة منير أو للدفاع عنه، بل بغرض الفهم الذي يرجح أن الإحباط من "الملك" وإدانة قطاع من جمهوره له، قائم على صورة ذهنية للنجم المحبوب، ربما لا تكون دقيقة، فمنير منذ البداية كان على يسار الفن أكثر منه على يسار السلطة. غنى أغنية مختلفة، لكن ليس من باب "الالتزام"، مثل نموذج الشيخ إمام، لهذا فإن دعت أغانيه إلى معاني الحرية والرفض والتمرد، إلا أن صاحبها لم يهمل متطلبات السوق وضرورات الانتشار وحسابات المكسب والخسارة، وليس غريباً أن تكون للأخيرة (الخسارة) الغلبة في ساحة لا تعرف معنى للكلمة بعيداً عن أرقام التوزيع بالأمس وأعداد المشاهدة اليوم.

المساهمون