"ماكيبا" لجين... عند تأمّل الأغنية

"ماكيبا" لجين... عند تأمّل الأغنية

04 سبتمبر 2023
فوجئت جين من استعادة الأغنية وجماهيريتها الجديدة (سكوت دادلسون / Getty)
+ الخط -

على الرغم من أن الفيديو كليب المصور، الذي قدمت مغنية البوب جين (Jain) من خلاله أغنيتها ماكيبا (Makeba)، كان قد مرّ على نشره أكثر من ست سنوات، إلا أنه شهد في الآونة الأخيرة انبعاثة غامضة بغموض آليات الانطلاقات والانبعاثات غير المتوقعة، التي تحدثها لوغاريتمات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، تحت مسمى فايرال، أو سعة الانتشار الفيروسي.
وبتعقّب منشأ الفيروس المسبب لرواج الفيديو، يُمكن رصد الإصابة رقم صفر، بلغة علوم الأوبئة. ففي نهاية شهر مايو/أيار الماضي، رفع أحدهم قُصاصة فيديو على تطبيق تيك توك، يظهر فيها النجم الكوميدي الأميركي بيل هيدر (Bill Hader) المعروف لدى جمهور قناة إن بي سي، مُضيفاً لبرنامج المنوعات، Saturday Night Live، وهو يرقص على أنغام أغنية جين، وراءه خلفية خضراء فاقعة اللون. 
حصدت القصاصة أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة. بعدها، أخذت الفيديوهات، المعروفة بـ Reel، على تطبيق إنستغرام  بالتكاثر، ليفوق عددها ثلاثة ملايين، رفعها مئات الملايين من المُستخدمين، صوّروا أنفسهم في أوضاع متنوعة، يؤدون رقصة بيل هيدر على إيقاع "ماكيبا". 


أيقظ الترند الأغنية المنسية من رقادها، لتُبعث من جديد على منصات آي تيونز وسبوتي فاي، وليغمر الفيديو كليب المصور لها موقع يوتيوب. الأمر الذي استدعى تعليقاً من الفنانة جين نفسها، أقرّت من خلاله بأن تلك الشهرة الكاسحة أخدتها على حين غرّة، لتُعرب عن دهشتها وإعجابها بقدرة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي غير المسبوقة على توجيه الذائقة العامة، بمبادرة من العامة أنفسهم.
جان لويز غاليس (Jeanne Louise Galice)، موسيقية ومغنية فرنسية في مجال الأفرو-بوب الراقص المتأثر بالإيقاعات والموسيقى الأفريقية، تدين بسيرتها المهنية في الأساس لمنصات الإنترنت، كـ"ماي سبيس"، التي سبق أن شاع استخدامها حتى أوائل العشرية الثانية من القرن الحالي، هناك حيث تم اكتشاف تسجيلاتها المبكرة من قبل الوكلاء الفنيين.


أما مريم ماكيبا (1932 - 2008) الشخصية التي تكنّت بها أغنية جين وتحدثت عنها، فهي أشهر من نار على علم. موسيقية ومغنية وممثلة وكاتبة أغانٍ جنوب أفريقيّة، برزت خلال الربع الأخير من القرن الماضي، كأيقونة النشاط السياسي الهادف إلى إحلال العدالة الاجتماعية في عموم القارة السوداء، ما جعلها تحظى بلقب "ماما أفريقيا". 
في ظاهر كلٍّ من الشكل والمضمون، تطرح جين أغنيتها مُصمّمةً على طراز الأفرو-بيت إجلالاً لذكرى ماكيبا، تذكيراً بإرثها الفني أولاً، بوصف الأخيرة من الرواد الأوائل لذلك الطراز، وبإرثها النشاطوي ثانياً، وذلك عن طريق سرد سيرتها النضالية من خلال نص الأغنية.    
أما باطن كلّ من الشكل والمضمون، فيأتي بغير ذلك. عند تأمّل الأغنية، خصوصاً من منظور الفيديو المصّور، لا تلبث أن تظهر للعيان مُعظم التنميطات، التي ما نفكّت ترسم العلاقة بين الغرب الأوروبي الأبيض والقارة الأفريقية السوداء منذ الحقبة الاستعمارية.
تظهر الشابة الحسناء جين، الفتاة بيضاء البشرة الوحيدة في الفيديو، كمن تقود بعثة استكشافية بمفردها في أرجاء الصحارى والغابات، تتصدّر مجموعةً من الراقصات والراقصين جميعهم من الأفارقة سود البشرة. تتميّز حركتها بالمركزية داخل سردية المشاهد، تتمحوّر حولها جلّ الأحداث. تضطلع بمهام ترؤسيّة، إذ تُصوَّر وهي تُدير دفة الموسيقى من على الميكسر الذي يُعدّ، هو ومنضدة تدوير الأسطوانات، آلات فناني الدي جيه الموسيقية. في واحدٍ من المشاهد، ستحرّك أحد مفاتيح الميكسر، فتسري الطاقة الكهربائية باتجاه البلدات والقرى النائية.


لن تشارك الرقص بصورة فعالة سوى في مشهد وحيد، حين تتحول بفعل خبو الإضاءة إلى ظلٍّ أسود. في المقابل، لن يكلّ الأفارقة السود عن الرقص مُعظم مدة الفيديو كليب ذي الثلاث دقائق ونصف، أو يُستعاض عن الرقص بأنشطة بدنية، لطالما ارتبطت بالصور النمطية عن أسلوب  الحياة الأفريقية، كممارسة الرياضات وأداء الطقوس القبلية.  
صُمّمت اللوحات كمزيجٍ من رقص الهيب هوب والبريك دانس والفلوكلور الأفريقي المحلي، منظوماً على نبض الأفرو-بيت. بهذا، يُشكّل الفيديو سردية هرمية تُصوّر المغنية البيضاء تقوم بالغناء، تدير الموسيقى وتوجّه الأحداث من خلال فردية مركزية قيادية. في أحد المشاهد، سترسم التنميطات الأفريقية بريشتها. منها، عندما تهمّ بشقّ مجازيّ لأحد المشاهد عن طريق خدعة سينمائية، أو عند طلائها حصاناً أبيض بخطوط الزيبرا، فيستحيل حماراً وحشياً .
بينما يشغل الشخوص سود البشرة الخلفية معظم الوقت، مكتفين بظهورٍ جمعي، يقتصر حضورهم فيه على الحركة الجسدية. يتقابل بذلك كلٌّ من التوكيد على السمة الفكرية المُميزة للقارة الأوروبية، وعلى السمة العضلية للقارة الأفريقية، في ما يُشبه كونتربوان ثقافي، تُمكن الإشارة إليه بالعبارة الشهيرة من المسرحية المصرية "مدرسة المشاغبين": "أنا المخ وأنت العضلات"، يبلغ الذروة عند قنطرة تسبق الختام، يتوقف فيه الراقصون عن الرقص، ليُسمَع صوت لهاثهم مُكبرّاً، كما لو صدر عن قطيعٍ من خيولٍ برية.

أما الموسيقى فهي رتيبة مينيمالية، تقتصر من الناحية التأليفية على مذهبين متناوبين، واحدهما سريع يرتكز على نبض ضربة واحدة، كما هي العادة في موسيقى التكنو، التي تُنتج في الأساس على أمل أن تصبح تقليعة شبابية كاسحة، تدبّ على وقعها أجساد المراهقات والمراهقين حول العالم، في المدارس والمراقص وحفلات السهر والسمرّ. لأجل ذلك، تراعى عند التأليف عوامل البساطة والحيوية والجاذبية، ناهيك عن أثر التكرار، الذي يكفل للناس حفظ اللحن والكلمات المنظومة عليه، وتعلّم الرقصة المصاحبة لها، فيروج تداولها بين الناس.
مع هذا، لم تكن جين تتوقع ذلك المدى من الرواج بعد مرور ست سنوات على إصدار الأغنية. ولعلها لم تع مدى توغّل النظرة الاستشراقية في السرد والمشاهد التي أُخرج وفقها الفيديو كليب، بحيث يبدو في تعارض مع نية الاحتفاء بإرث ميريام ماكيبا. والمفارقة أن البلدان الثلاثة الأوروبية التي سجّلت أكبر نسبة تفاعل معه، تشهد في السنين الأخيرة صعوداً في الخطاب السياسي الانعزالي الممتعض من التعددية الثقافية، ألا وهي بولونيا وهنغاريا والسويد.

المساهمون