كسرات آثارنا... رحلة غليوم الثاني إلى الشرق

كسرات آثارنا... رحلة غليوم الثاني إلى الشرق

13 ابريل 2024
غليوم الثاني في القدس (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في نهاية القرن التاسع عشر، قام الإمبراطور الألماني غليوم الثاني بزيارتين للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، معززًا العلاقات بين الإمبراطورية الألمانية والسلطنة العثمانية، وحصلت ألمانيا على امتيازات مثل تدريب الجيش العثماني وامتياز سكة حديد برلين-بغداد.
- غليوم الثاني أسس الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية وأطلق بعثات تنقيب أثرية في الشرق الأوسط، أدت إلى اكتشافات مهمة مثل الآثار اليونانية والرومانية لمدينة بيرغامون، ونقل واجهة المعبد الإغريقي إلى متحف بيرغامون في برلين.
- الزيارات كان لها بعد ثقافي وديبلوماسي، حيث انتقد غليوم الثاني الحروب الصليبية وأشاد بصلاح الدين الأيوبي، وأهدى السلطان عبد الحميد الثاني واجهة قصر المشتى للإمبراطور، مما يعكس الدبلوماسية الثقافية والآثارية بين الشرق والغرب.

أسفرت زيارتان للإمبراطور الألماني غليوم الثاني (1859-1941)، للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1842-1918)، الأولى اقتصرت على إسطنبول عام 1889 والثانية شملت بيت المقدس وبيروت وبعلبك ودمشق عام 1898، عن تمتين التحالف بين السلطنة العثمانية وألمانيا، فحصلت الأخيرة على امتيازات واسعة ابتداء من تدريب وتجهيز الجيش العثماني وامتياز سكة حديد برلين بغداد، وحق حماية البروتستانت في الدولة العثمانية إلى جانب إرسال البعثات الأثرية الألمانية لعدة مواقع في أراضي السلطنة في سورية، ولبنان، والعراق، وتركيا. 

أسس الإمبراطور الألماني بعد عودته مباشرة من رحلته الطويلة للشرق (الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية) بعثات تنقيب، وأرسلها إلى بابل وآشور في العراق وبعلبك في لبنان وبعض المواقع الأثرية شمال سورية، فضلاً عن التنقيب في الأراضي التركية آنذاك، والتي أسفرت عن اكتشاف الآثار اليونانية والرومانية لمدينة بيرغامون. ونقل الألمان واجهة المعبد الإغريقي في المدينة إلى برلين، بل وأطلقوا اسمها على متحفهم (متحف بيرغامون) الذي أدرج ضمن قائمة "يونسكو" للتراث العالمي، وهو مغلق هذه الأيام للصيانة.

هدايا ثقافية

كانت للزيارة أهمية خاصة على الصعيد الثقافي، ولا سيما لجهة النظرة الأوروبية للحروب الصليبية، إذ انتقد غليوم الثاني، خلال تدشينه كنيسة المخلص الإنجيلية في القدس، الفرنجة لدخولهم فلسطين بحد السيف، فيما دخلها هو بقوة السلام والصداقة مع السلطان عبد الحميد، معتبراً أن هذه الصداقة هي التي سمحت لملك مسيحي بالحج إلى الأراضي المقدسة.
زيارة القيصر الألماني غليوم الثاني الى المسجد الأقصى
زيارة القيصر الألماني غليوم الثاني الى المسجد الأقصى (Getty)

كما كان الإمبراطور الألماني أول زعيم غربي يزور الجامع الأموي وضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق، ونقلت الصحف عنه قوله أمام الضريح: "إن صلاح الدين كان الآية الكبرى في زمانه في الشهامة والعدل والكرم". قدم الإمبراطور هديتين لضريح صلاح الدين، أولاهما إكليل برونز مصنوع في برلين، وبقي فوق الضريح حتى دخول القوات الإنكليزية مع الأمير فيصل لدمشق، فاستولى عليه لورانس العرب ونقله إلى بريطانيا، والثانية ضريح من المرمر، وكان من المقرر أن ينقل جثمان صلاح الدين من ضريحه الخشبي لهذا الضريح الهدية وهو ما لم يحصل. وضع القيصر وزوجته إكليلاً من الزهر على ضريح الناصر صلاح الدين، كتب عليه بالعربية: "غليوم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكاراً للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي".

يورد بعض الباحثين أن والي دمشق أهدى الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني بعض المخطوطات التي كانت في خزانة الجامع الأموي الكبير، ولاحقاً أرسل الإمبراطور أستاذ اللاهوت في "جامعة برلين" هيرمان فون سودين لمعاينة محتويات مائة وخمسين كيساً من المخطوطات في موقع قبة الخزنة، وكانت معظمها ثنائية اللغة، عربية ويونانية. وهذه المخطوطات موزعة اليوم بين المتحف الوطني في دمشق ومتحف الفنون الإسلامية في إسطنبول وبرلين.

مخطوطات خزانة الجامع الأموي من مقتنيات متحف الفنون الإسلامية في إسطنبول (خاص العربي الجديد)
مخطوطات خزانة الجامع الأموي من مقتنيات متحف الفنون الإسلامية في إسطنبول (العربي الجديد)

أمير الشعراء يخلد الزيارة

خلد أمير الشعراء أحمد شوقي زيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني لضريح صلاح الدين الأيوبي بقصيدة يقول فيها:

فهل من مبلغ غليوم عني
مقالاً مرضياً ذاك المقاما؟
رعاك الله من ملك همام
تعهد في الثرى ملكاً هماما
أرى النسيان أظمأه، فلما
وقفت بقبره كنت الغماما
تقرب عهده للناس حتى
تركت الجليل في التاريخ عاما
أتدري أي سلطان تحيي
وأي مملك تهدي السلاما؟!
وقفت به تذكره ملوكاً
تعوّد أن يلاقوه قياما!
وكم جمعتهمو حرب، فكانوا
حدائدها، وكان هو الحساما.

سياسة الآثار

بعد زيارته للقدس ودمشق، توقف القيصر الألماني في مدينة بعلبك، فأزاح الستار عن لوحة تذكارية، وهي قطعة رخامية بيضاء قسمت إلى قسمين حملت في أعلاها الشعار الألماني والطغراء العثمانية، وكتب تحتها باللغتين الألمانية والعثمانية "تذكار الولاء الراسخ بين جلالة السلطان الغازي عبد الحميد الثاني وبين جلالة الإمبراطور غليوم الثاني". وفي تلك الأثناء، كان الرسام الإمبراطوري يلتقط الصور للقيصر أثناء وقوفه أمام اللوحة. 

في تلك الزيارة، قدم الأديب ميخائيل ألوف كتابه حول تاريخ بعلبك لقيصر، وهذا الكاتب شارك في أعمال بعثة التنقيب التي أرسلها القيصر للتنقيب عن آثار بعلبك، واستمرت بالعمل فيها بين عامي 1900 و1904 وصدرت أعمالها في مجلدين باللغة الألمانية، أولهما للنصوص والثاني للرسوم الفنية التي وثقت آثار بعلبك وهيكلها التاريخي واكتشافات البعثة للكثير من الآثار الرومانية والبيزنطية والإسلامية.

ومن الهدايا التي حملها غليوم الثاني سبيل ماء وميضأة، نافورة للوضوء، وضعت في ميدان الخيل بجانب مسجد السلطان أحمد، ويعرف بالسبيل الألماني.

السبيل الألماني في إسطنبول هدية من القيصر غليوم الثاني (خاص العربي الجديد)
السبيل الألماني في إسطنبول هدية من القيصر غليوم الثاني (العربي الجديد)

واجهة قصر المشتى

رداً على هدية القيصر، اختار السلطان عبد الحميد إهداء ضيفه واجهة قصر المشتى المكتشف في الأردن، ويعود تاريخه للعصر الأموي، وهو حتى الآن أحد أهم معروضات متحف بيرغامون في برلين، حيث تمت إعادة بنائه كواجهة بطول 33 مترا وارتفاع 5 أمتار.

متحف الفنون الإسلامية في إسطنبول

بجانب السبيل الألماني يوجد متحف إسطنبول الأثري، وهو المتحف الأول في كل أنحاء السلطنة العثمانية ويحوي الكثير من الآثار المكتشفة في المنطقة العربية، ومنها ناووس الإسكندر الأكبر الذي عثر عليه قرب مدينة صيدا في لبنان، ويزن حوالي 15 طناً، كما توجد في المتحف نصوص اتفاقية السلام الحثية المصرية وأكثر من 18 ألف مخطوطة، أهمها المخطوطات والمصاحف الشريفة التي حملها العثمانيون من خزانة المسجد الأموي الكبير أثناء انسحابهم من سورية خلال الحرب العالمية الأولى.

يعرض هذا المتحف مجموعة من أواني السيراميك والخزف والزجاج المكتشفة في الرقة السورية أثناء العهد العثماني، ويعود اكتشافها لبعثة أثرية ألمانية احتفظت بأكثرها، حيث تعرض في متحف بيرغامون في برلين. وقد كشف باحثون أن رسالة وجهها مدير هذا المتحف لمسؤول متحف برلين عام 1905، يعلمه بأن السلطات العثمانية وافقت على أن ترحّل "الكسرات التي وجدت في الرقة إلى ألمانيا".

فخار من الرقة من مقتنيات متحف الفن الإسلامي في إسطنبول (خاص العربي الجديد)
فخار من الرقة من مقتنيات متحف الفن الإسلامي في إسطنبول (العربي الجديد)

بوابة عشتار

في هذا المتحف قطعة مأخوذة من بوابة عشتار التي اكتشفتها البعثة الأثرية الألمانية بقيادة روبرت كولدفاي في بابل خلال التنقيب عن الآثار بين عامي 1899 و1917.
بينما البوابة تتربع في صدر متحف بيرغامون، وتعد إحدى أيقوناته المهمة بلونها الأزرق ونقوش الحيوانات والتماثيل، وقد بناها ملك بابل نبوخذ نصر الثاني في القرن السادس قبل الميلاد تمجيدا لعشتار، إلهة الحب والحرب في بلاد الرافدين.

أوفدت الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية عام 1897 روبرت يوهان كولدفاي إلى بَابِل، الذي استطاع تحديد معالم مدينة بابل الرئيسية من قصور ملكية في مردوخ ومعابد والشوارع الأساسية في المدينة، بالإضافة لرسم مُخططات وجمع بيانات. ونشر كولدفاي نتائج عمله في كتابه "قيامَة بَابِل". اكتمل اكتشاف البوابة في أواخر عام 1910، فقام كولدفاي ومساعده ولتر أندريه بتفكيك الكسوة الخزفية ونقلها إلى برلين وإعادة تركيبها كما كانت. 

بوابة عشتار في متحف بيرغامون في برلين (Getty)
بوابة عشتار في متحف بيرغامون في برلين (Getty)

البارون ماكس أوبنهايم

كان البارون أوبنهايم مستشرقاً يتقن العربية ورحالة وعالم آثار بالإضافة لعمله الديبلوماسي والإعلامي في الإمبراطورية الألمانية، وأيضاً يشك بأنه كان ضابط مخابرات ألمانياً، وقد كتب العديد من المؤلفات التي تعتبر بحق من أهم المراجع في بابها، ولا سيما موسوعته عن البدو، بالإضافة لرحلاته التي شملت معظم أنحاء العالم العربي والتي سجلها في كتبه، ومنها "من البحر المتوسط إلى الخليج".

استطاع أوبنهايم لقاء السلطان عبد الحميد الثاني، وحصل منه على رخصة تنقيب عن الآثار في تل حلف في الشمال الشرقي لسورية، وقد استطاع الكشف عن آثار هذه المنطقة الغنية وشحن معظمها إلى برلين، ثم استأنف التنقيب في تل حلف عام 1927، حيث توقف التنقيب خلال الحرب العالمية الأولى، وقد صادرت السلطات البريطانية بعض الآثار بعد مواصلة التنقيب خلال شحنها في البحر، وأما ما تبقى منها فقد عرضه بمتحف خاص في برلين (متحف تل حلف)، الذي أصابه الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، وقد حاول بيع بعض القطع الأثرية في الولايات المتحدة.

دبلوماسية الآثار

تتوزع أكثر من مليون قطعة أثرية وعشرات الآلاف من المخطوطات العربية على متاحف أوروبا وأميركا ومعظمها وصل بطرق التفافية لهذه المتاحف، وتمثل هذه القطع نفائس الحضارات القديمة في مصر والعراق، وبلاد الشام، والجزيرة العربية، وغيرها.
والغريب أن بعض هذه القطع لا يوجد لها مثيل في بلداننا رغم أنها موطنها الأساسي وبعضها يكاد يكون نقلها معجزة كالمسلات المصرية ونواويس الملوك.

كانت في معبد الأقصر 13 مسلة، وزن المسلة تقريبا نحو مائتي طن، الآن لا توجد في الأقصر سوى ثلاث مسلات. أهدى محمد علي باشا مسلة لملك فرنسا، وهي الموجودة في ساحة الكونكورد في باريس، ومسلة ثانية أهداها لملك بريطانيا. 

تم تسرب الآثار بشكل أساسي لعدم وجود قوانين ناظمة للآثار وعدم اهتمام الحكام بهذه الثروة وإرضاء الأجانب ودولهم بمنحهم امتيازات التنقيب وإهدائهم القطع الأثرية، وعندما سُنت قوانين لتنظيم عمل بعثات التنقيب الغربية راعت مصالح هذه البعثات أكثر من الدول التي تملك هذه الآثار، فمنحت المكتشفين نصف ما يعثرون عليه، وكان الكثير من العاملين بهذه البعثات وقناصل وسفراء الدول يهربون الآثار ويبيعونها للمتاحف.

دلالات

المساهمون