كريمة السعيدي (2/ 2): "الأفلام تتجوّل فينا وتُشكّلنا من الداخل"

كريمة السعيدي (2/ 2): "الأفلام تتجوّل فينا وتُشكّلنا من الداخل"

08 ابريل 2022
كريمة السعيدي: نستلهم ترجمة أشياء تمسّنا من مشاهدات سابقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

(*) هل كانت في بالك أفلام روائية، في المونتاج؟ هناك مشهد أتوقّف عنده: عندما تشرعين في الحكي عن هروب أختك أمينة، توقفك والدتك بشكل مباغت، ويتجمّد كلّ شيء. هذا ذكّرني بفيلم ميشال غوندري، "إشراقةٌ أبديةٌ لعقلٍ متنوّر"، وفكرة تعطيل الذاكرة درءاً للنّدم والشعور باللوعة.

حسناً (ابتسامة). أنا أحبّ ميشال غوندري. ربما كان الأمر نتيجة تفاعلٍ غير واعٍ. لكنّي مُعجبةٌ كثيراً بعمله. إلى ذلك، أنتَ تعلم أنّ الأفلام تتجوّل فينا، وتُشكّلنا من الداخل، وتخرج بهذه الطريقة. عندما نحاول ترجمة أشياء تمسّنا، نستلهم ممّا شاهدناه من دون أنْ نعي ذلك.

 

(*) "في المنزل" فيلم مونتاج بالدرجة الأولى. يشتغل الأميركيون كثيراً على هذا النوع، لأنّهم اعتادوا تصوير الحياة الأسرية دائماً، بمناسبة أو من دونها، وهذا ليس الحال في الثقافة المغربية. نجحتِ حقّاً في سرد قصّة العائلة من خلال مادّة فيلمية قليلة جداً. فقط بعض أفلام حفلات الزفاف، وألبوم الصُور الثّابتة. هل شعرتِ بهذا العائق؟

كان هذا كلّ ما توفّر لدي. عملتُ على المواد التي أملكها. رغم ذلك، تبقّى لديّ الكثير من أرشيف صُور العائلة لم أستخدمه. فعلياً، استخدمتُ جزءاً صغيراً. لحسن الحظ، احتفظَتْ أمي بصُور فوتوغرافية ووثائق كثيرة، تحمل آثار أحداثٍ كثيرة. كانت لدينا آثار أشياء كثيرة، لكن القليل جدّاً من أفلام الفيديو. مقاطع الفيديو المتوفّرة كلّها تقريباً مرتبطة بالاحتفالات.

 

(*) استغللتِ هذا جيداً. أفكّر مثلاً في المشهد الرائع، حين تجمّدين الصورة في حفل زفاف، وتقولين إنّها آخر صورة تجمعك بإخوتك الثلاثة ووالدتك. هذا المنوال في التعليق على الصُور لقول من يظهر فيها، وبرفقة من، مُهمٌّ للفيلم، لأنّه، في الحالة الخاصة بوالدتك ووالدك مثلاً، يقول أشياء أساسية عن علاقتهما.

يقول أشياء عن العلاقة، لكنْ قبل كلّ شيء يقول شيئاً عن الصورة. هذا فيلم يحاول إعادة البناء، وإعادة تملّك الحقّ في الحكي، والحقّ في إظهار الأشياء. ما الذي يمكننا إظهاره؟ ماذا لا نُظهر عادةً؟ هناك أيضاً سؤال قوانين التمثّل لدينا. أجد أننا نعيش فترةً غريبةً، حيث إنّ كلّ شيء أصبح ممكناً ومتاحاً بسبب عولمة الصورة. أصبح هذا المعطى جزءاً من واقعنا، وفي الوقت نفسه، هناك حاجة إلى إدراك مُلحٍّ لأسئلة مثل: ماذا تقول الصورة حقاً؟ ماذا يمكننا أنْ نجعلها تقول؟

بما أنّي أشتغل على عمل يرتبط بالذاكرة، كنتُ أنظر مليّاً إلى ألبوم الصُور. أدركتُ عندها أنْ لا صُور فيه تجمع أمي وأبي معاً. في الوثائق كلّها، لم يكن لديّ ذلك. كان بودّي العثور على تلك الصورة، وكنتُ سأحبّ أنْ أراهما معاً. لكن هذا الغياب أصبح أيضاً قوة مُحرّكة للسّرد. في المونتاج، بمجرد الانتهاء من وضع التسلسل الزمني في ما يتعلّق بالحوارات مع أمّي، تبدّت لي طبقة ثانية تُشكّل جزءاً من خلفية السرد: صوتي الداخلي، بالمحكية المغربية، الذي يربط الصُور. ثم طُرح تساؤل عن الكيفية التي بها سأقول الأشياء. هل سأقول إنّ والديّ ليسا في الصورة معاً فقط، أو أضيف شيئاً آخر؟ تُصبح المهمّة ذات طبيعة أدبية نوعاً ما، ومرتبطة جوهرياً بالكتابة. ثم تأتي الجمل هكذا: "أنتِ أو هو، لكنْ ليس أنتِ وهو" (تحاكي تعليق الفيلم). تأتي جملٌ كهذه، فيبدو جليّاً أنّ الصحيحَ والمناسب قولُها على هذا النحو.

 

(*) هناك أيضا جُمل مثل "بنتي أصغر سنّاً منّي"، التي تقولها والدتك متأثّرةً بشرط المرض، ما يجعلها تبدو لوهلةٍ أولى عديمة الأهمية، أو غير متماسكة، لكنّها تحمل في النهاية شاعرية كبيرة.

مُهمّ جداً لي أنْ أبيّن التالي: حتّى في حالة فقدان معالم اللغة، يروي خطاب أمي قصّة أخرى. شيءٌ لا يخصّ واقعنا، بل ينتمي إلى عالمها، لأنّها تسمّيه كما تريد، لكنّه يحمل خيالاً وشعراً.

أنتَ مُحقٌّ في قولك إنّ هذه الجمل تصبح شاعرية. يحيل ذلك إلى الكيفية التي تقول بها لغتُها أشياء دالّة عن عالمنا.

 

(*) تتطرّقين أيضًا إلى ذكرى أخويك جمال ومحمد، ومصيرهما المأساوي، عبر بعض الأفكار النسقية. جمال الذي لا يفتأ ينتظر عودة الأب، ومحمد الذي يعقد الزيجات كي يُشفى من مرضه. هذه أشياء كانت واضحة في مخيّلتك، أو أنّك وجدتها في عملية صنع الفيلم؟

مزيجٌ من الاثنين، في الحقيقة. هناك ذكرياتي الخاصة التي تتكشّف وتعود، وهناك ذاكرة ما تمّ حكيه لي عندما كنتُ أصغر سنّاً. قيل لي إنّ أخي كان ينتظر أبي، ثم توقّف ذات يوم عن الانتظار. كان مهمّاً أيضاً قول أشياء قاسية، من دون الخوض في الوصف، ومن دون الوقوع في التنديد، بمجرد تسميتها. أحياناً، يكفي استحضار الأشياء فيتكشّف المعنى، ولا داعي لقول المزيد. سمعتُ أناساً كثيرين، في بلجيكا والمغرب، قالوا لي إنّ القصّة التي حكيتُها قصّتهم أيضاً، رغم أننا لا نملك القصّة نفسها. يتعلق الأمر باستحضار أشياء مشتركة، كفقدان الأب، أو فقدان الأخ. ما جعل الناس يملكون هذه القصّة أنّي أحكيها بكلمات قليلة جداً، وبشكل مينيماليّ استطاع أنْ يوقظ أشياء في قصصهم الخاصة.

 

(*) هناك عمل كبير على الشريط الصوتي. كيف عملت على تصميم الصوت ومزجه؟

في الواقع، حاولتُ منذ البداية ألا أبالغ في هذا الجانب، لأنّي أدركُ أنّ الصوت ما إنْ يطغى حتّى يلتهم الفيلم، نوعاً ما. كانت الفكرة أن أبدأ بالمتوفّر لديّ، الذي كان كثيراً أساساً، ويتعلّق بالتسجيل الصوتي. ثم حاولتُ الاشتغال على وصلات الزمن، أي أنْ تكون لديّ أصوات يمكن أنْ توقظ شيئاً معيناً من الذاكرة. اختيارات مونتاج الصوت مرتبطة بما يمكن للزمن أنْ يوقظ فينا.

كان عليّ أيضاً القيام بعمل دقيق ورهيف للغاية، لأنّي أدركتُ أنّه بمجرّد أنْ أحاول وضع القليل من التوتّر مثلاً، يصبح لديّ أكثر ممّا يلزم. كان هناك شيء يجعل من السهل خنق الفيلم ما إنْ أضع قليلاً من التأثير الصوتي. لذلك، توجّب عليّ العمل بلمسات خفيفة. بعد المزج، كانت هناك أشياء بدت واضحة، وفرضت نفسها عليّ، كمشهد تقول فيه أمّي: "توقّفي عن طرح الأسئلة عليّ"، ويتجمّد كلّ شيء. حاولتُ العمل على هذا النوع من النوايا، لإحداث قطيعة بين الأشياء وسط الفيلم، ودائماً في إطار مقاربة العمل على الزّمنية والذاكرة.

 

 

(*) للموسيقى دورٌ مهمٌ في الفيلم. فبالإضافة إلى وظيفتها التكوينية، تقول أشياء أساسية عن انقسام/تناغم المجتمع المغربي، الناتج من فكرة الاختيار بين الموسيقى الأندلسية والقرآن، الذي تقترحينه كلّ مرة على والدتك. كيف فكّرت في المُكوّن الموسيقيّ؟

تعمل الموسيقى أولاً كعنصر يوقظ الذاكرة، لأنّ هذا يُلاحَظُ غالباً عند المُصابين بألزهايمر. فكّرتُ في وضع موسيقى مألوفة لدى والدتي، يُمكن أنْ تعيد لها الذكريات. القرآن والموسيقى الأندلسية، هذا ما نشأنا عليه منذ الصّغر. ولدتُ في بروكسل، لكنّ والدتي تنحدر من طنجة. الطنجاويون والتطوانيون والفاسيّون ينصتون كثيراً إلى الموسيقى الأندلسية. عندما كنتُ طفلة، ذهبت رفقة أمّي إلى حفلات موسيقية أحياها عبد الصادق شقارة في بروكسل. هذه أشياء تمثّل جزءاً جوهرياً من حياتي.

واضحٌ أيضاً أنّ هذا يقول شيئاً عن ثقافتنا وتربيتنا، وعن إمكانية عيش هذين المكوّنَين فينا. ثم هناك فكرة الغناء، وتذكّر الأغاني التي كنا نغنّيها في الحفلات، ومحاولة دفع أمّي إلى الغناء كي أنشِّط ذاكرتها. أيضاً، كانت والدتي تستمع إلى عبد الوهاب الدّكالي، وأخذتني لمشاهدته عندما كنت مراهقةً. بدا لي اختيار أغنيته "كان يا مكان" للختام منطقيّاً تماماً.

 

(*) خاض الفيلم مساراً جيّداً في المهرجانات. ما أبرز محطّات هذه الجولة، وما الذّكرى التي تحتفظين بها من بثّه على "القناة الثانية" المغربية؟

بالنسبة إلى المهرجانات، اختير الفيلم في "إدفا" ("مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" ـ المحرّر). إذا كان صُنّاع الأفلام الروائية يحلمون بالذهاب إلى مهرجان "كانّ"، فإنّ من ينجزون أفلاماً وثائقية يحلمون بالذهاب إلى "إدفا". هذا أول اعتراف بالفيلم.

المهمّ أنّ ترحيب المُشاهدين لم يكن حارّاً فقط، ولكن... كيف يُمكنني وصف هذا الشعور؟ فجأة، هناك أشخاص يتّجهون نحوك، ويكتبون إليك، ومنهم من يأتي للتحدّث معك، ويخبرك بأشياء صادقة عن فيلمك، ومقدار الأحاسيس التي خلقتها فيهم. مثلاً، وصلتني رسالة من عبد القادر بنعلي، أهمّ كاتب مغربي يعيش في هولندا، وقد شاهد الفيلم في "إدفا"، وكتب عنه، وخصّص له حلقة تلفزيونية. خلب الفيلم لبّه. مُشاهدته كانت لقاءً فارقاً ومُلهماً للغاية بالنسبة إليه. لفترة طويلة، تعمل على مشروعك في الظلّ، بأكبر قدر من التّواري والصمت. تشتغل بتركيز كبير، وتزن كلّ صورةٍ وكلّ صوت. كلُّ ما في هذا الفيلم كان "مليمترياً"، لأنّي اقتفيتُ الخيط الرفيع والدقيق بين الحدود، لأقول أشياء مثيرة للاهتمام عن التمثّل والسرد، وكيف يمكننا أنْ نحكي قصّة انطلاقاً من ثقافة مزدوجة. ثمّ تأتي هذه الشهادات، واختيار الفيلم في مهرجانات عدّة، كاعتراف بجودة ما قمتُ به.

تلقيتُ إطراءً وتقديراً كثيرين حول شكل الفيلم، خاصةً من زملاء ومهنيين أثنوا عليه. هذا مصدر اطمئنان. شيءٌ رائع أيضاً أنّ هناك شخصاً مثل رضا (رضا بنجلّون، المشرف على مديرية البرامج الإخبارية والوثائقية في "القناة الثانية" المغربية ـ المحرّر) حرص على دعم مشروع كهذا، حتى أمكن بثّه على التلفزيون المغربي. افتُتِن به، وأيّده منذ المراحل الأولى. كنتُ محظوظة أيضاً، لأنّ أياً من المُنتجين المشاركين لم يتدخّل في المونتاج، وأنّهم جميعاً دعموني حتّى النهاية، ولم يُطلَب منّي تغيير لقطة، أو القيام بما لا أرغب فيه. كانت لديّ حرية إبداعٍ كبيرة. تأثّر المنتجون بالشكل والمحتوى، كلّما عرضتُ عليهم صوراً من الفيلم.

المساهمون