كارلوفي فاري: متعةُ راحةٍ وعملٍ وكسل

كارلوفي فاري: متعةُ راحةٍ وعملٍ وكسل

01 يوليو 2022
كارلوفي فاري ليلاً: سهرات تزيد الراحةَ راحةً (Getty)
+ الخط -

 

لكلّ مهرجان سينمائي سمة أو أكثر، تجعله مختلفاً، بشكلٍ ما، عن المهرجانات الأخرى. السمة التي تميّزه عن غيره لن تكون، بالضرورة، سينمائية فقط. للمدن حضورٌ، وللفضاء المحيط بهما (المدينة والمهرجان) تأثيراتٌ، وأنماط الممارسة اليومية في فترة كلّ دورة سنوية فعلٌ عميقٌ في تمييز هذا المهرجان عن ذاك، تماماً كتميّز هذه المدينة عن تلك. ما تمنحه المدينة لضيف المهرجان ومتابع يومياته يُساهم في التمايز؛ وما يشعر به ضيف المهرجان ومتابعه في المدينة وإزاءها، أثناء مهرجانها، يجعل الأخير، بالنسبة إلى الضيف والمتابع، مختلفاً ومميّزاً.

التداخل بين المدينة ومهرجانها متينٌ. أو هكذا يُفترض بالعلاقة بينهما أنْ تكون عليه. الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" مناسبةٌ لكلامٍ عن مهرجانٍ، يُعتبر الأبرز في أوروبا والعالم، خاصة في علاقته الوطيدة بسينمات أوروبا الشرقية تحديداً. علاقة مدينة كارلوفي فاري التشيكية بمهرجانها السينمائي السنوي عميقة ومتماسكةٌ. علاقة مؤثِّرة بمن يزور المدينة لمهرجانها، رغم أنّ المدينة معروفةٌ بكونها ملاذ المُتعبين صحّياً، لشهرتها بالآبار الجوفية المليئة بالمياه الساخنة الطبيعية، التي تشفي المرء، أو تُخفِّف كثيراً من تشنّجاتٍ وأثقال ومتاعب يُعانيها، إنْ يسمح لجسده وعقله وروحه وذاته باستسلامٍ كامل لها.

المهرجان ـ المُقام سنوياً في يوليو/تموز (وأحياناً بين نهايات يونيو/حزيران وبدايات الشهر اللاحق له)، باستثناء دورة العام الفائت، المُقامة بين 20 و28 أغسطس/آب 2021، لأسباب لها علاقة بكورونا/أوميكرون ـ يمنح متابعه اليوميّ راحةً يصعب الحصول عليها في مهرجانات دولية أخرى، كالـ"برليناله" و"كانّ"، فيشعر بقدرة، جسدية ومعنوية، على مشاهدة أفلامٍ، وحضور لقاءات عامة مع ضيوفٍ من دول مختلفة، وممارسة مهنةٍ تتطلّب منه تنبّهاً، صحافياً على الأقلّ، لتلك اليوميات، فيكتب مقالاته في وقتٍ، يكون مُريحاً له أيضاً، كأنّ المهرجان، كالمدينة، يهتمّ براحة ضيوفه، خاصة أولئك الملتزمين مهنة النقد والصحافة السينمائية.

والمهرجان، إذْ يستمدّ فكرة إراحة ضيوفه قدر المستطاع من هاجس المدينة في راحة زوّارها وقاصديها، يجعل يومياته المكثّفة مساحة شاسعة لتواصلٍ متنوّع الأشكال مع السينما، الموزّعة أفلامها المختارة في كلّ دورة على صالاتٍ متفرّقة، لن تكون المسافات بينها وبين المقرّ الرئيسي للمهرجان في فندق "تيرمال"، والفنادق المحيطة به حيث يُقيم ضيوفٌ ومدعوون ونقّاد، كبيرة، ما يُساهم في إضفاء مزيدٍ من الراحة، خاصة أنّ المشي في المسافات هذه حاصلٌ بين عمارة بهيّة، ونهرٍ متواضع في انفلاشه بين ضفّتين، وكمٍّ هائل من المحلاّت والمطاعم والمقاهي، وأمكنة المياه الساخنة للراغبين في تذوّقها، رغم أنّ في هذا كلّه حسّاً سياحياً، يُفترض به ألّا يُلهي متابع المهرجان عن المُشاهدة السينمائية، من دون أنْ يتغاضى المتابع عن هذا، فاليوم كلّه يتّسع لممارسة أشياء كثيرة، بينها واجب المهنة، ومتعة الانصراف إلى بهاء الكسل في شوارع المدينة وأرصفتها وحاناتها، ولذّة التوغّل بين أناسٍ كثيرين، يغلب عليهم شابات البلد وشبّانه، القادمون إلى كارلوفي فاري بمناسبة مهرجانها، إمّا للمُشاهدة، وإمّا لإلقاء نظرة على الضيوف النجوم، وإمّا للتمتّع بسهراتٍ، تبدأ بعد ظهر كلّ يومٍ، في حيّز مفتوح على الهواء النقيّ، وجمال الطبيعة، وسحر الليل.

 

 

لا إلغاء لجمال مدنٍ أوروبية، لها مهرجانات سينمائية دولية. لكنّ صخب برلين، وإنْ يعجز عن غلبة حيوية مهرجانها وسطوته، غير قادر على منح المتابع يوميات المهرجان تلك الراحة الممنوحة له في كارلوفي فاري، رغم الجمال المُمتع للمدينة ومهرجانها. أمّا مدينة "كانّ"، فغير جاذبةٍ كاسمها وكمهرجانها الأول والأكثر شعبية في العالم، خاصة إنْ تكن الإقامة (12 يوماً) في أمكنةٍ غير بعيدة عن "قصر المهرجانات والمؤتمرات" والصالات المحيطة به، فأمكنة كهذه (خارج الشاطئ الرائع) عادية للغاية، في مدينة تُعتبر الأشهر في كوكب الأثرياء.

القاهرة مختلفة. فرغم سقوطها المدوّي في قبضة الجحيم، منذ وقتٍ بعيدٍ، لا تزال تمتلك سحر تاريخٍ تكتبه فيؤثّق سيرتها في الذاكرة، وبهاء حياةٍ يُراد لها موتاً أبدياً، فتتمرّد، وإنْ بصمت غالباً، كي تُعيد ترتيب أمورها، وإنْ بتواضع وقلق. مهرجان القاهرة غير متمكّن من التمدّد في شرايين المدينة وروحها، ولهذا علاقة بسطوة السلطات الحاكمة على المدينة والمهرجان، منذ تأسيسه، وخشية تلك السلطات من كلّ فعلٍ تجديدي، كي لا تفقد قبضتها فتفقد سطوتها.

هذا كلامٌ يطول. "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" مختلفٌ، لأنّ المدينة مختلفة. لكنْ، أولاً وأساساً، لأنّه مهرجان مختلف منذ بدايته: باهتماماته وبرامجه، وبمواكبته تحوّلات القرن الـ20، من شيوعية مهزومة إلى رأسمالية غير منتصرة كلّياً، وبتمكّنه من إيجاد رابطٍ متين بينه وبين المدينة. هذا كلّه من دون تنازل عن دور أساسيّ له: سينما أوروبا الشرقية وإنتاجاتها، أولاً وأساساً، التي تبغي انتشاراً، فإذا بالمهرجان بوّابة أولى لهذا، غالباً.

المساهمون