"الكرة الكريستال" لأرسنيجفيتش: سرد وقائع وإدانة المهاجرين واضحة

"الكرة الكريستال" للصربي أرسنيجفيتش: سرد وقائع وإدانة المهاجرين واضحة

06 سبتمبر 2021
ابراهيم كوما: أفضل ممثل في "كارلوفي فاري الـ55" (يوهان بونّي/ فرانس برس)
+ الخط -

3 جوائز نالها "أسير إلى أبعد ما أستطيع"، للصربي ستيفن أرسنيجفيتش، في ختام الدورة الـ55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي": الكرة الكريستال، أكبر جوائز المهرجان؛ وأفضل ممثل لإبراهيم كوما؛ وتنويه خاص من لجنة التحكيم الرئيسية لمديرة التصوير يلينا ستانكوفيتش. بالإضافة إلى جائزة من "هيئة المحلفين المسكونية". التعامل معه كفيلم سينمائي عن المهاجرين غير الشرعيين، يجعله تقليديا للغاية، لا يُقدّم جديداً بعد مئات الأفلام الوثائقية والروائية، التي طرحت القضية الشائكة بإنسانية ورقّة مؤثّرة. قيمته الحقيقية تكمن في التسامح والغفران والتضحية بالحبّ لإنقاذ الحبيبة. هذا يتّضح في الدقائق الأخيرة، ما يجعل المُشاهد يتعاطف بقوّة مع بطليه.

فكرة الفيلم مُستلهمة من قصيدة ملحمية صربية بعنوان "ستراهينيا"، من القرن الـ14، عندما أصبحت صربيا هدفاً للغزاة العثمانيين، الذين أحرقوا إحدى القلاع المتمرّدة، وخطفوا زوجة النبيل الصربي ستراهينيا. الأمر تجاوز الاختطاف والإغتصاب إلي الخيانة العلنية، التي تستلزم ـ في التقاليد الشعبية ـ قتل الزوجة. لكن ستراهينيا، بعد بحثه الطويل وعثوره على زوجته، لم يقتلها، بل أعادها إلى والدها وأخويها، مُعلناً أنّه سامحها، ومُكتفياً بتمزيق حلق المعتدي المغتصب.

للشخصية الأساسية في فيلم ستيفن أرسنيجفيتش الاسم نفسه لبطل القصيدة: نبيلٌ آخر، في ظروف مغايرة وبعيدة عن الخيانة. مُهاجر شاب من غانا، يعيش مع آلاف آخرين في مخيّم للاجئين في بلغراد، بعد محاولتهم العبور إلى الاتحاد الأوروبي. مع زوجته الشابّة أبابو، المرتبط بها منذ 3 أعوام، ينتظر الحصول على أوراق الهجرة، لتُصبح حياتهما أيسر وأكثر إنسانية. ظاهرياً، يبدو أنّ الحبّ يُهوَّن عليهما الانتظار بين عشرات اللاجئيين، الذي يأتون ويرحلون، بينما يُساهم الشاب أحياناً في إرشادهم إلى طريق المهرّبين، نظير حصّة مالية.

لحظات قليلة مع الأطفال الصغار في المخيم تكشف أنّ الممثلة الطموحة أبابو لم تتخلَّ عن حلمها في تأدية دور بطولة على خشبات المسرح في إنكلترا. يتّضح هذا أكثر عندما ينضمّ إلي المخيم لاجئون سوريون جدد، بينهم شابان (الممثل مكسيم خليل والمخرج رامي فرح) يُخطّطان للهروب عبر الحدود إلى إنكلترا. النقاش الجماعي بينهم يشي بتوتّر خفي بين الزوجين، وبأنّ ستراهينيا، رغم حبّه الشديد لزوجته وإيمانه بموهبتها، يُحجّمها لتبقى معه.

في أحد الأيام، يُقبَل ستراهينيا في فريق كرة القدم الصربي، بعد رفضٍ متكرّر، فيسهر مع أصدقائه احتفالاً بالمناسبة حتّى الصباح. عند عودته، يكتشف فرار زوجته مع الشابين السوريين، فيقرّر البحث عنها واستعادتها. في رحلته، تظهر تفاصيل المفاوضات بين السائقين والمهرّبين، وحقيقة الخديعة التي يتعرّض لها المهاجرون من المافيات. صحيحٌ أنْ لا جديد، لكنّ التفاصيل موظَّفة درامياً. هناك مكالمات هاتفية لرجل سوري، وشابّة من بلده تتلقّى رسالة تفيد بخطورة إصابة أحد أفراد عائلتها بجروح، وبسوء الوضع في دمشق.

عندما يُنصت ستراهينيا إلى الحوار الهاتفي، الدائر بين السائق ورجل المافيا، يُدرك حجم الخداع الذي تعرّض له، فيسأله: "هل كلّ الأسر التي أحضرتها إليكم فعلتم معها هذا؟ ألقيتم بهم على قارعة الطريق، قبل أنْ يصلوا إلى الحدود؟". يصل ستراهينيا إلى إحدى نقاط تجمّع المهاجرين، ويتعرّف على أحد الشابين السوريين (رامي فرح)، فينهال عليه بالضرب قبل أنْ يسأله عن زوجته، فيُخبره أنّها هي التي أصرّت على الهروب معهما لتحقّق حلمها في إنكلترا، وأنّها نجحت في دخول المجر، لكنْ رجال الشرطة قبضوا عليها. يواصل ستراهينيا رحلته، المليئة بالمهرّبين وضحاياهم، وكمائن رجال الشرطة، لكنّه يعثر عليها بالحيلة والخديعة والكذب.

 

 

في هذا المخيم، تقع مواجهات متعدّدة الأطراف. تصريح أحد الشابين السوريين (مكسيم خليل) عن قضيته بكلمات تميل إلى الخطابة رغم إجادته الأداء، بينما اكتفت أبابو بالقول: "لا تنظروا إليَّ كمجرّد مهاجرة لعينة، بل كإنسانة". هناك مواجهة بين الزوج المخدوع والشاب السوري الذي حاول صدّ الهجوم فقط، من دون تبادل الاعتداء. لكنّ المواجهة الأهمّ، والأكثر تأثيراً من الزاوية الدرامية، تتمثّل بذهاب أبابو إلى زوجها مرّتين، فيصدّها في الأولى ويسمعها في الثانية. تخبره أنّها تحبّه، وأنّها لم تكفّ عن حبّه، لكنّها تريد تحقيق حلمها في التمثيل، فهو حقّق حلمه في الالتحاق بفريق كرة القدم، وأنّها في تلك اللحظة شعرت بالغيرة منه، فقرّرت أنْ تُجرّب مثله تحقيق حلمها. بعد انتهائها من الكلام، يتعانقان كأنّ شيئاً لم يحدث.

رغم هذا، يكتشف ستراهينيا، في صباح اليوم التالي، رحيل أبابو، فيُجَنّ. يقول لإدارة المخيم إنّه وزوجته يمتلكان أوراق الهجرة في بلغراد، وأنّ بقاءهما هنا غير شرعي. في المشهد ما قبل الأخير، يجلس ستراهينيا متوتّراً في الباص الذي سيُعيده إلى مخيمه في صربيا، بينما رجال الشرطة في صراع مع أبابو، التي تصرخ بقوّة رافضة الخروج من المخيم، بينما يُحاول الآخرون تنبيه شرطيّ ألاّ يضرب المرأة. يهبط ستراهينيا صارخاً: "اترك المرأة. لا تؤذها". وحين يقول الشرطيّ "إنّها زوجتك، ونحاول إعادتها معك"، يردّ عليه: "إنّها ليست زوجتي. هذه المرأة لا أعرفها".

رغم كلّ هذا النُبل، الذي يتفجّر في اللحظات الأخيرة في ستراهينيا المستسلم لمصيره، لم يُقدِّم ستيفن أرسنيجفيتش المهاجرين كضحايا فقط، إذْ يُدينهم أيضاً. فستراهينيا، البطل النبيل، يسرق (في بداية الفيلم) ملابس له ولزوجته من محلات الصرب، ويتكسّب من المهاجرين. كما أنّ المخيمات، رغم تدنّي مستوى تجهيزها ورغم فقرها وتقشّفها، بدت نظيفةً، تُدار بمسؤولية. أرسنيجفيتش نفسه صرّح بأنّ عائلاتٍ كثيرة وتفاصيل عدّة صوّرها مع اللاجئين "حقيقية".

يُقال إنّ هناك نسخة أخرى أقدم من تلك القصيدة الشعبية الملحمية، قُتلت فيها الزوجة على أيدي أخويها. لكنّ ستيفن أرسنيجفيتش، المُشارك في كتابة السيناريو مع بويان فولِتيش ونيكولا دوكرا، استند إلى النسخة المتسامحة، مواصلاً التبديل والتعديل في خطوطها وتفاصيلها، ومستبدلاً الخيانة بالغيرة، ومُبقياً على فكرة التسامح والنُبل والرحلة الطويلة لكلّ من البطل الأبيض الحاكم الثري، ونظيره الأفريقي الفقير المحتاج، ومؤكّداً على أنّ المهاجرين لا يُعانون مشاكل تقليدية كمهاجرين فقط، لأن لديهم مشاكلهم الإنسانية.

وإذْ تبرز الأهمية الكبرى للقصيدة الملحمية في التناقضات الناشئة بين التقاليد والتصرّفات الإنسانية، فالقيمة الأهمّ لـ"أسير إلى أبعد ما أستطيع" تتجلّى في الصراع بين قوة الحبّ والقدرة على إنكاره، والتصرّف بإنسانية لمصلحة الحبيبة

(*) فاز ستيفن أرسنيجفيتش بـ"الدبّ الذهبي" عن فيلمه القصير "الالتواء"، في الدورة الـ53 (6 ـ 16 فبراير/ شباط 2003) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرليناله)"؛ كما شارك في "بانوراما" دورته الـ58 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2008) بـ"الحبّ والجرائم الأخرى".

المساهمون