"مهرجان كارلوفي فاري الـ55": حضور سينمائيّ عربي مكثّف ومتنوّع

"مهرجان كارلوفي فاري الـ55": حضور سينمائيّ عربي مكثّف ومتنوّع

30 اغسطس 2021
إيلي داغر: من "كانّ" 2015 إلى "كارلوفي فاري" 2021 (Pool/ Getty)
+ الخط -

 

"الامتحان" و"البحر أمامكم" و"ريش" و"آليام.. آليام"، عناوين أفلام تصنع حضوراً مكثّفاً ومُتنوّعاً للسينما العربية، في الدورة الـ55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". الفيلم الأول (إنتاج مشترك بين العراق وقطر وألمانيا)، مقبلٌ من كردستان العراق، أخرجه شوكت كوركي؛ والثاني في قسم "آفاق"، للّبناني إيلي داغر، الحاصل على السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير، عن "موج 98"، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

جديد داغر أول روائي طويل له، تأليفاً وإخراجاً، مُستوحى من قول مشهور في خطابٍ لطارق بن زياد موجَّه إلى جيشه: "البحر وراءكم والعدو أمامكم". يبدأ ليلاً، من الطائرة، ونظرة على المدينة الغارقة في السواد، التي تزداد بشاعتها مع سواد البحر بأمواجه المتقلّبة. لقطة مأخوذة من عينَي جيني، الشابّة العائدة من باريس، المُحبطة والمُكتئبة بعد فشلها في الاستمرار بأي عمل هناك، وعدم انتظامها في الدراسة الجامعية. رحلة فاشلة، تُعيدها إلى "شلّة" فاشلين كانت تتكبّر عليهم. هكذا يخبرها حبيبها الموسيقار، الذي لم يغفر لها تخلّيها عنه بسفرها، لتحقيق حلمها. لكنْ، ما الذي ينتظر جيني؟ مدينةٌ تحتضر، بل تنتظر تسونامي غير مُستبْعَد. فالظروف الاقتصادية والسياسية أكثر من سيئة، والجميع يشعرون بالضياع، بمن فيهم الكبار: الأم تعترف بذلك رغم ادّعائها السعادة، ورغم ابتسامتها التي تسقط كقناع مزيّف، في لحظات الشرود والقلق على ابنتها، بأداء متوازن، بل أكثر من رائع في صدقه.

"واحدة تروح تتعلّم بالخارج علشان تْقشّ المصاري قشّ. بسْ إنتي ما عملتي فلوس. فليه سافرتِ؟" (بالمحكية اللبنانية: شابّة تسافر لتدرس في الخارج كي تجمع مالاً كثيراً. لكن، أنتِ لم تجمعي مالاً، فلماذا سافرتِ؟). هكذا يسألها الخال، فتجيبه جيني: "يمكن حتّى ما أتعفّن. المصاري مش كلّ شيء" (بالمحكية اللبنانية: ربما كي لا أتعفَّن. المال ليس كل شيء). ربما لذلك، ينغمس الشباب في الرقص والحفلات والشرب وتعاطي المواد المخدّرة. هذا ما تشي به لقطاتٌ، بعد ذلك اللقاء العائلي.

تحاول جيني التأقلم مع واقعها. تمضي برفقة حبيبها وقتاً مُبهجاً، فتضحك للمرّة الأولى من قلبها، وتحكي له عن حياتها في باريس، وتستعيد أيامها الحلوة في بيروت. تسهر مع أصحابه، لكنْ سرعان ما يتحوّل هذا كلّه إلى كابوس وقيد يُكبّل حريتها، إذْ يرفض حبيبها (له وظيفة متواضعة نهاراً، ويعزف الموسيقى ليلاً) أن تستكمل دراستها في الخارج، فتقرّر هروباً لن يتحقّق إلّا بالقتل. فهل تنجح في الإفلات؟

هذا أحد الأفلام التي تهمس بالحقائق عبر التفاصيل الدقيقة، رغم أنْ لا شيء يحدث فعلياً طوال مدّته (تمثيل منال عيسى ويارا أبو حيدر وربيع الزهر وروجيه عازار). لا شيء يتطوّر. كلّ ما في الأمر أنّ المخرج الشاب يُقدِّم حالة ذهنية لأبطاله، ويجعل المشاهدين يعيشون واقع المدينة من خلال أخبار الراديو والتلفزيون، أو عبر علاقات الناس، ومن تردّي الظروف المادية لأسرة جيني، التي تبدو نظراتها أقرب إلى إنسان ميت.

تكتمل صورة المدينة بلقطات كابوسية تعيشها جيني في البحر، فترى نفسها في المياه الملوّثة بأوراق وغصون السعف، وزجاجات المياه الفارغة، إلى جانب صُورها القديمة، التي تطفو أمامها. يتكرّر الكابوس قبيل النهاية، وحينها تُصبح برفقة آخرين، يتزايد عددهم كلّما اتّسع الكادر بلقطة جميلة ومؤلمة، فجميعهم متّشحون بالسواد، يُديرون ظهورهم للمدينة، في مشهد مأسوي بديع، يُذكّر بشخصية حنظلة في رسومات الفنان الفلسطيني ناجي العلي. الفرق أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى بيروت، فالمشهد يُؤكّد أنّهم سيَفرّون منها. لقطات مرفقة بالعزف على آلات وترية، خصوصاً آلة الكمان، بأنغامها الشجية الحزينة.

 

 

"آليام آليام"، للمغربي أحمد المعنوني، وثائقي مُنتج عام 1978، ويُعتَبر بداية السينما المغربية الحديثة. معروضٌ في "القسم الاستعادي" في "كارلوفي فاري"، الذي يُعدّ أهم وأعرق مهرجان في وسط أوروبا وشرقها، والذي يُكرِّم هذا العام "مؤسّسة مارتن سكورسيزي السينمائية"، التي رمّمت 900 فيلم من التراث السينمائي العالمي، منذ تأسيسها عام 1990. فيلم المعنوني معروض مع 10 أفلام أخرى، متنوّعة في تواريخ ومناطق إنتاجها وتيماتها.

في قسم "آفاق" أيضاً، هناك "ريش" للمصريّ عمر الزهيري، المُشارك في كتابة السيناريو مع أحمد عامر، والحاصل على "الجائزة الكبرى نسبريسّو"، في النسخة الـ60 لـ"أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي. تُذكّر فكرته بقصّة "المسخ"، للكاتب التشيكي فرانز كافكا: بائع متجوّل، يستيقظ ذات صباح فيجد نفسه صرصاراً. لكنْ، هناك فوارق كبيرة بين العملين، فمسخ كافكا، المنتمي إلى المذهب العبثي في الأدب، رمزٌ للإنسان المقهور، الذي يُعاني الاغتراب، كإحدى أهمّ سمات المجتمع الرأسمالي الحديث. أما بطل "ريش"، فزوج فقير ومطحون ودكتاتور، يتحوّل إلى دجاجة بفعل ساحر غير مُتمكّن من مهنته.

إنّه مجرّد ركيزة للكشف عن القدرات الكامنة في أعماق زوجته، المرأة المغلوبة على أمرها؛ ولمتابعة رحلة تحوّلها من كائن سلبي مقهور، تعيش العبودية باستسلام تام، بل تحاول الحفاظ عليها، إلى امرأة فاعلة تتحرّر في النهاية بقتل مستعبدها، ثم تتولّى تربية أولادها، لجعلهم يعيشون في مستوى أفضل مما كان مع زوجها. من بين أوجه الشبه بين "المسخ" و"ريش"، أسلوب المعالجة الفنية، والقدرة على الجمع بين الواقعية والفانتازيا. يتحقّق هذا عند عمر الزهيري بتصوير أماكن الأحداث بقبحها الشديد وغرائبيتها، كأنها تظهر هكذا للمرة الأولى.

إذا لم يستمتع المُشاهِد بلهجة الشخصيات، لن يعرف أبداً أنّها تنتمي إلى مصر. هذا يكتسب، في الوقت نفسه، بُعداً واقعياً، من هيئة الشخصيات وتصرّفاتها الذكورية، فهؤلاء رجال موجودون في المراتب الاجتماعية والوظيفية كافة. بطل كافكا تحوّل إلى مسخٍ، نتيجة خضوعه للقوانين غير الأخلاقية، وبطلة "ريش" تنفصل عن إنسانيتها وتقتل ببرود وحزم، وهذا أهمّ. الفيلم يُركّز على أنّ هذه المرأة، التي بدت هشّة وضعيفة، كانت تمتلك في داخلها إرادةً وعزماً لم يلينا ولم ينهزما.

يُشار إلى أن اهتمام "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" بالسينما العربية بدأ منذ 4 أعوام، مع تولّي الناقد السينمائي المصري جوزيف فَهيم دوره كمندوب للمهرجان لسينما الشرق الأوسط، فساهم باقتراحاته في توسيع المفهوم الجغرافي لمسابقة "شرق الغرب"، ونقل نبض السينما العربية وتطوّراتها. والمهرجان، الذي ألغى دورة العام الماضي (2020) بسبب كورونا، لا يهتمّ فقط بالمخرجين العرب، فهناك قضية اللاجئين السوريين أيضاً، المطروحة في أحد محاور الفيلم الصربي "أمشي إلى أبعد ما أستطيع" لستيفن أرسنيافيتش، العائد، هو أيضاً، بعد غياب طويل، علماً أنّه فاز بجائزة "الدبّ الذهبي" عن فيلمه القصير "الالتواء"، في الدورة الـ53 (6 ـ 16 فبراير/ شباط 2003) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، قبل مشاركته بـ"الحبّ والجرائم الأخرى"، في "بانوراما" الدورة الـ 58 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2008) للـ"برليناله" أيضاً.

المساهمون