احتفالٌ بسينما في مدينةٍ صامتة كالقبور

احتفالٌ بسينما في مدينةٍ صامتة كالقبور

13 يونيو 2022
بيروت ليلاً: فراغ كصمت القبور (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

المشهد نفسه يُثير شعورَين، يتناقض أحدهما مع الآخر:

نوعٌ من سكينةٍ، فالاحتفال بالسينما، في مدينةٍ مُقيمة في مصائب وأعطاب، يُشيع مناخاً مُفرحاً، وإنْ يكن متواضعاً ومدّته قصيرة، رغم قسوة ما تُصوّره أفلامٌ عربية حديثة الإنتاج.

وكثيرٌ من ألمٍ وقلق وغضبٍ، فالمكان المختار للاحتفال بتلك السينما وأفلامها غائصٌ في سكينة المقابر، والصالات الكبيرة في مجمّع واحدٍ تعجز عن منح القادم إليها اطمئناناً وهدوءاً.

مساء 10 يونيو/حزيران 2022، تُفتتح الدورة الـ11 لـ"أيام بيروت السينمائية"، بعد غياب 3 أعوامٍ، لتفشّي كورونا، وبدء ثالث أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ (كما يُردّد عارفون ومتخصّصون). سبب اختيار صالات "سيتي سينما ـ أسواق بيروت" غير واضحٍ، لكنّه يُشبه رغبةً في إنعاش حيّز جغرافيّ، غارقٍ في فراغٍ مُدوٍّ. الأمكنة المحيطة بالصالات مُغلقة. الأزقّة خاليةٌ. كلّ شيء يعبق بموتٍ، يتفنّن في إذلال شعبٍ، يستمرّ في خنوعه للموت، وفي تحطيم مدينة، تتلذّذ في جَلْد ذاتها إكراماً لساسةٍ، المشترك الوحيد بينهم حِرفية النهب والفساد والقمع والقتل، بأشكالٍ مختلفة.

موقع تلك الصالات غير بعيدٍ عن شارعٍ، يملؤه غضب لبنانيين ولبنانيات، يُعرف (الغضب) لاحقاً بـ"انتفاضة 17 أكتوبر" (2019). غليان الشارع محفوظٌ في ذاكرةٍ، وفراغ الشارع نفسه، بعد أقلّ من 3 أعوام، دليلٌ على بؤس وشقاء وعفن، يُصاب به بلدٌ وأناسٌ، والأسباب كثيرة، يبقى أبرزها تخاذلاً شعبيّاً مريراً، رغم "رعشة" تمرّد صامتٍ في انتخابات نيابية (15 أيار 2022)، ستكون (الرعشة) خافتة وبسيطة وغير فاعلةٍ بأكثر من شذراتٍ، هنا وهناك.

 

 

عتمة الصالة، المشتهاة (العتمة والصالة)، غير نافعةٍ. فالعتمة مستفحلةٌ في البلد وناسه، والصالة غير قادرة على بثّ حياةٍ في جثّة. سرورٌ يعمّ أناساً يحتفلون، مع جمعية "بيروت دي سي" (مُنظّمة الـ"أيام"، المنتهية في 19 يونيو/حزيران 2022، والموزّعة في أمكنةٍ أخرى في بيروت وخارجها)، بافتتاح دورة جديدة لمهرجانٍ يجهد ـ منذ تأسيسه ـ في تثبيت مكانةٍ لسينما عربية، يُفترض بها أنْ تكون جديدة وتجديدية، ويتيح فرصاً عدّة لمُشاهدين ومُشاهدات في اكتشاف بعض هذا الجديد والتجديدي، ومتابعة نتاجات صانعيه/ها.

لكنّ سروراً كهذا مؤقّتٌ، فالحيّز الجغرافي قابع في خرابِ روح ومادة، والمدينة محتاجةٌ إلى معجزة علمٍ وماورائيات لتحقيق قيامة مُرتجاة، لكنّها مُغيّبة. سرورٌ كهذا يصطدم، بعد نهاية الافتتاح (كما بعد نهاية كلّ عرضٍ)، بصمتٍ يتفوّق على صمت القبور في صُنع خديعة العيش في مدينةِ أحلامٍ معطّلة ومعلّقة (المدينة والأحلام معاً).

المشهد يختزل إحدى صُور المدينة، في عيشها موتاً سريريّاً، أقلّه منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، المقتولة بوحشيةِ ردِّ النظام عليها، وبكورونا، وبانفجار تلك الأزمة الاقتصادية الأعنف في تاريخ البلد والعالم، وبالمقتلة الرهيبة المصنوعة في مرفأ بيروت لاحقاً (4 أغسطس/آب 2020).

صورة لمدينةٍ، تبدو السينما فيها إحدى الأدوات القليلة والأخيرة لتنفّسٍ، لن تتردّد تنانين النهب والفساد والقمع والقتل في الإجهاز عليه، بما تملكه التنانين من قوّة مادية، تجعلها متحكّمة بالبلد وناسه، والغالبية الساحقة من ناسه راضية وخانعة وقابلة.

صورة تقول إنّ موت المدينة يواجَه بالسينما. لكنّ السينما أعجز من أنْ تخترع حياةً خارج كادراتها وصالاتها، رغم أنّها (السينما) أقدر على عيش حياةٍ، تصنعها أفلامٌ، يعكس معظمها وقائع عيشٍ في هاويةٍ وعتمة وعفن واهتراء وهزيمة.

المساهمون