فيلمان عربيان في "مهرجان طرابلس للأفلام": تكثيف راهن واستعادة ذاكرة

فيلمان عربيان في "مهرجان طرابلس للأفلام 10": تكثيفُ راهنٍ واستعادةُ ذاكرة

22 سبتمبر 2023
كلاوديا كاردينالي (2022): حضور تمثيلي متألّق في "جزيرة الغفران" (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

 

ساعاتٍ عدّة في يومٍ واحد، ينتهي مع بزوغ فجر التالي عليه. هذا يعني أنّ الزمان واحد، والمكان أيضاً، فالنصّ السينمائي حاصلٌ في مكتبٍ تعمل موظَّفاته في مجالٍ "خيريّ إنسانيّ"، وكلّ شابّةٍ تتّصل هاتفياً، وفقاً للوائح تُرسل إليهنّ من جمعيات خيرية، بمن يُعتَقَد أنّه/أنّها مُتبرّع لأناسٍ محتاجين إلى مساعدة مالية. لكنّ الساعات تلك ستكون مرآةً قاسية لأحوالٍ أقسى، في اجتماعٍ غارقٍ في خرابٍ وألمٍ وانهيار وفساد وقهرٍ.

"جحر الفئران" (2023) للمصري محمد السمان (تأليفاً وإخراجاً) يكشف هذا عبر خلود (رنا خطاب)، المنتقلة من قسم المحاسبة في ذاك المكتب إلى قسم الاتصالات، الذي تجهل مفرداته، فتفشل فيه، قبل أنْ تنتبه إلى "مفردات" العمل. لكنّ المصائب أكبر وأخطر من جهل قواعد المهنة الجديدة، التي تبقى أخفّ وطأة من أزمةٍ، تريد خلود حلّها، لكنّها تواجه تحدّيات، ستكون "طبيعية" في حياةٍ غارقةٍ في الفقر والسطوة الذكورية وانعدام كلّ أفق خَيِّر.

هذا يختلف عن "جزيرة الغفران" (2022) للتونسي رضا الباهي (تأليفاً وإنتاجاً وإخراجاً)، المعروض للمرة الأولى في الدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". الزمان مفتوحٌ على تداخل بين أعوامٍ وذكرياتٍ وأحداثٍ، يُشار إلى بعض الأخيرة باغتيال فرحات حشاد (زعيم نقابي ووطني تونسي) في 5 ديسمبر/كانون الأول 1952؛ والمكان واحدٌ، يتمثّل بجزيرة جربة (الساحل الشرقي التونسي)، التي يعود إليها أندريا ليكَري (هشام رستم، الذي يُهدى الفيلم إليه لرحيله في 28 يونيو/حزيران 2022، هو المولود في 26 مايو/أيار 1947)، التونسي ذو الأصل الإيطالي، ليدفن والدته، فتظهر أمامه كلّ أشباح الماضي.

الفيلمان، المُشاركان في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الـ10 (21 ـ 29 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" (شمالي لبنان)، يعاينان أحوال أفرادٍ في مواجهات يومية مع مصائب وضغوط، وإنْ يبقى لأملٍ ما حضورٌ في ثنايا المرويّ والمَعيش. الفقر، بكلّ ما يفرضه على الفرد من أهوالٍ ومشقّات ومخاطر، ومن إمكانيّة السقوط في خرابٍ روحي ومعنوي وجسدي، يدفع خلود إلى جهدٍ إضافيّ لتحصيل 7 آلاف جنيه مصري، ليكتمل المبلغ المطلوب للحصول على شقّةٍ جديدة، تُخرجها وأختها ووالدتها من شارعٍ غارق في الفوضى والتمزّقات إلى ما يُفترض به أنْ يكون أفضل وأهدأ.

هذا غير موجود في "جزيرة الغفران"، فعائلة أندريا منتمية إلى طبقة اجتماعية أفضل، والحيّز الجغرافيّ في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته (هذه الفترة أساسية في سرد الحكايات القديمة) مفتوح على أديانٍ مختلفة، ما "يوهم" بتسامحٍ وانفتاح وتواصل، رغم أنّ الاحتلال الفرنسي يؤدّي، من بين أمور عدّة، إلى جهادٍ ينخرط فيه تونسيون/تونسيات منتمين إلى تلك الأديان، أو خارجين عليها.

 

 

الاختلاف الحاصل بين الفيلمين متعدّد المستويات، بدءاً من الفضاء الدرامي/الجمالي الذي يُحدِّد أحوالاً وتفاصيل وعلاقات. الانغلاق في مكانٍ واحدٍ لساعاتٍ، تصل إلى فجر يومٍ تالٍ (جحر الفئران)، يُقابله انفتاح المدى الجغرافي، مع ما يُفترض به أنْ يكون انفتاحاً في الاجتماع والعلاقات والمشاعر (جزيرة الغفران). مواجهة قسوة الآنيّ وضغوطه القاتلة، رغم أنّ خلود تُطالب بحقّ طبيعي لها ككائن بشريّ أساساً، يُقابله نوعٌ آخر من قسوةٍ، متمثّلةٍ بذاكرةٍ مليئة بنزاعات وصدامات، وإنْ يكن بعضها مبطّناً، ومن حبٍّ ممنوع، ومشاعر مقهورة، ومسالك عيشٍ لن تكون كلّها سويةٍ ومتناغمة وهادئة، ولعلّ الهدوء الوحيد كامنٌ في "الجزيرة" نفسها، التي يُتقن التصوير السينمائي (نِوين الباهي) التقاطه بألوانٍ تُحيل إلى زمنٍ مختفٍ، ومناخٍ منتهٍ.

وإذْ تطغى الموسيقى على "جزيرة الغفران" (ماركو وِرْبا)، إلى حدّ يحول، أحياناً، دون "تمتّع" بلقطاتٍ ولقاءاتٍ واستعاداتٍ، فإنّ موسيقى "جحر الفئران" (صفا بركات) تزيد من قسوة الآنيّ، من دون أنْ تمتدّ طويلاً في زمن الحكاية (أقلّ من 24 ساعة) ومدّة الفيلم (94 دقيقة). في 85 دقيقة فقط، يختزل رضا الباهي سيرةً وتاريخاً ومساراتٍ، تتألّق فيها الإيطالية كلاوديا كاردينالي (1938)، بشيخوختها الماثلة في الملامح، التي (الشيخوخة) لن تُعطِّل براعة أداء وعفويته، وخفّة حضورٍ، له موقع متقدّم لسيّدة عجوز في عائلةٍ مفكّكة، تُخفي تمزّقاتها وآلامها بـ"وجوه" كثيرة. اللقطات الخاصة بها قليلةٌ، لكنّ إطلالاتها فيها كافية لإبراز ما لديها من بساطة تمثيل، تَعي (البساطة) كيفية كشف المخبّأ في الشخصية، التي توحي بلامبالاةٍ، مع أنّها تُراقب وتعاين، فتبدو كأنّها راوية الحكاية كلّها، وإنْ من خارج الـ"كادر".

أما رنا خطّاب، فغير حاضرةٍ في أفلامٍ سابقة، بحسب "السينما.كوم" (موقع إلكتروني مصري يُعنى بالسينما)، الذي يذكر أنّ لها مسرحيات ومسلسلات تلفزيونية عدّة. جمال وجهها، المغطّى بحجابٍ، يُنبِّه إلى جمال أداء بغلبةٍ واضحة لعفويةٍ تمثيلية، تُكمِل عفوية مواجهة كلّ لحظة درامية في سيرتها، كما في سيرة ذاك المكتب القابع تحت الأرض، كجحر فئران، يظهر منها واحدٌ في مصيدة (هناك طيفُ آخَرٍ يظهر سريعاً في بداية الحكاية). ضيق المساحة حافزٌ للتصوير (محمود النمر) كي يتفنّن، ولو قليلاً، في التقاط المخبّأ في ذاتٍ وروح وعلاقات، وللتوليف (وائل أرباب) كي يصنع فضاءً مفتوحاً على آلامٍ وخيباتٍ، كما على مثابرة مُتْعِبة للنجاة من عالمٍ/جحر قاتل وخانق وكئيب.

مشكلة فيلم محمد السمان كامنةٌ في نهايةٍ تتناقض كلّياً مع المسار المدمِّر لسيرة خلود في تلك الساعات المصيرية. بينما التسامح والانفتاح والتواصل بين أديان/ثقافات/تقاليد/مسالك، في فيلم رضا الباهي، غير "صحيحةٍ" كلّياً، فمتديّنون مسلمون يريدون للإيطالي إشهار إسلامه وهو عجوزٌ متعَبٌ وعاجز، قبل إنقاذه من أفرادٍ لهم في دين الإسلام وغيره إيمان بسيط وهادئ.

المساهمون