غوستاف فيجلاند.. الجسد البشري من المهد إلى اللحد

غوستاف فيجلاند.. الجسد البشري من المهد إلى اللحد

27 يناير 2024
حديقة فيجلاند في أوسلو- النرويج (العربي الجديد)
+ الخط -

لا يمكن أن تكتمل زيارتك للعاصمة النرويجية أوسلو دون جولة في حديقة ومتحف النحات غوستاف فيجلاند (1869-1943) لترى الجسد الإنساني منحوتا بكل تفاصيله وحالاته الحركية والانفعالية وفي جميع الأعمار ومن الجنسين.

ولا يمكن أن تعاين منحوتات فيجلاند دون الاعتراف بأن هذا الفنان مبدع موهوب التقط تفاصيل أجسادنا عارية في كل إشاراتها الصغيرة ودلالاتها الكبيرة. رغم براعة نحته للجسد الإنساني والذي يمكن ملاحظته بسهولة في منحوتات الحديقة، فإن فيجلاند أبدع منحوتات وتصميمات لا تدخل ضمن هذا الحيز ومنها ميدالية جائزة نوبل.

كما نحت العديد من الشخصيات ومنها الصناعي السويدي ألفريد نوبل صاحب جائزة نوبل ومخترع الديناميت، وركز على الشخصيات النرويجية المشهورة في عصره كالملحن ريكارد نودراك ملحن النشيد الوطني النرويجي وفيلز هنري أبيل عالم الرياضات، والكاتبة كاميلا كولت أول ناشطة نسوية حيث نحتها تتحدى الرياح بتمثال (العاصفة). كذلك نحت الفنان المسرحي هنريك إبسن الذي اشترط عليه أن يتم عمله خلال ست زيارات، مدة كل منها عشر دقائق، لم يكلمه خلالها.

حول العالم
التحديثات الحية

كما شارك فناننا بترميم الكاتدرائية الكبيرة في مدينة تروندهايم التي تحوي رفات القديس الملك أولاف صاحب الدور الأكبر في تحول الفايكنغ للمسيحية. وكانت مدينة تروندهايم العاصمة القديمة للنرويج، وما زالت حتى الآن المكان الذي يتوج فيه ملوك النرويج من الملك هارولد الأول الذي حكم بين 872-932 وحتى الملك الحالي هارولد الخامس والذي اعتلى عرش النرويج عام 1990 وحتى الآن.

حديقة فيجلاند

تعتبر حديقة فيجلاند أكبر متحف مفتوح للمنحوتات في العالم، وقد كرس الفنان غوستاف فيجلاند معظم سنوات حياته، حوالي أربعين عاما، لتصميمها بكل تفصيل بها من الأبواب والأسوار والأرضية وتوزيع المنحوتات. لم يكن تصميم الحديقة ووضع المنحوتات فيها خيار فيجلاند، بل كان نتيجة عقد أبرم عام 1921 بين الفنان وبلدية أوسلو التي منحته هذا المكان كمرسم ومنزل يقيم فيه مقابل أن تؤول كل أعماله لها.

ترك فيجلاند للبلدية 1600 منحوتة وآلاف الرسومات و420 نقشا خشبيا، والأهم من ذلك حديقة أصبحت معلما إنسانيا.

صمم فيجلاند بنفسه حديقته كاملة من البوابة الرئيسية والبوابات الأخرى والتي نحتها من البرونز مجسدا زوارها بشكل مدهش، ثم بنى الجسر حيث تصطف على الجانبين منحوتات تجسد حالة الإنسان منذ الولادة فالنمو ومن ثم الموت. بعد الجسر صمم النافورة وأمامها شجرة الحياة، ومنها يمكن الصعود إلى هضبة المتراصة (مونوليث) وتنتهي الحديقة بعجلة الحياة.

الصورة
بوابة حديقة فيجلاند في أوسلو(Getty)
بوابة حديقة فيجلاند في أوسلو (Getty)

جسر الإنسان

تجسد منحوتات فيجلاند 58 منحوتة، على الجسر العلاقة بين المرأة والرجل والعلاقة بين الآباء والأمهات والأولاد وتجسد حركة الإنسان بأشكال مختلفة كالجري، والمصارعة، والرقص، والعناق.. إلخ. إنها تكثف رحلة الجسد الإنساني من تشكله جنينا إلى نهايته بالموت. أكثر تماثيل فيجلاند شهرة  ضمن هذه المنحوتات، التمثال البرونزي للولد الغاضب ويعرف باسم (سيناتاجين)، وهو تمثال لطفل صغير ممتلئ عار يقف على ساق واحدة يضم قبضتيه ويرفع كتفيه وساقه اليمنى ويصرخ بغضب. وقد غدا أيقونة رمزية للحديقة ولفن فيجلاند وعلامة على أنك كنت في أوسلو، وقد تعرض تمثال الصبي الغاضب عدة مرات للسرقة والتشويه.

الصورة
منحوتة الطفل الغاضب لفيجلاند (Getty)
منحوتة الطفل الغاضب لفيجلاند (Getty)

من بين المنحوتات على الجسر منحوتة الجنين ثم الطفل في سنته الأولى ثم منحوتات تجسد العلاقات الأسرية، حيث يمكن رؤية رب أسرة سعيدا بتوأم وبجانبه أب آخر يحاول التملص من أطفاله الراكضين إليه ووالد ثالث يلاعب أطفاله، في حين تجسد منحوتة أخرى والدا يعاقب ابنه الصغير الشقي. هنا نجد الأمهات مع أبنائهن، ولكنهن حنونات ومهتمات بأطفالهن ولسن مثل بعض الآباء.

الصورة
منحوتات لفيجلاند على جسر الحديقة (العربي الجديد)
منحوتات لفيجلاند على جسر الحديقة (العربي الجديد)

نافورة الحياة

أراد فناننا بنحت نافورة الحياة تمثيل دورة الزمن وصراع الإنسان مع قوى الشر وتكيفه مع الطبيعة، فنحت ستة أشخاص عمالقة يحملون صحنا يتدفق الماء منه، وحولهم مجموعة منحوتات برونزية لأشخاص من مختلف الأعمار، وهياكل عظمية على أغصان الأشجار مع نقوش حول المحيط وحيوانات مثل السحالي والتنانين والتي ترمز لقوى الشر.
تحت هذه الأشجار نحت فيجلاند أوضاع المراهقين والمراهقات ومشاكلهم بالتكيف مع المجتمع وحبهم الأول وخسارتهم الأولى وغربتهم الوجودية.

المتراصة البشرية

تعتبر هضبة مونوليث في الحديقة أهم أعمال فيجلاند وأصعبها، فقد استغرق نحتها 14 عاما، وهي مسلة ضخمة بطول 17 مترا نحتت من صخرة تزن 280 طنا واستغرق نقل الصخرة للحديقة عاما كاملا. تتكون المتراصة من أجساد بشرية، 121 شخصا من مختلف الأعمار يكافحون للوصول الى قمة المسلة، وتبدو الشخصيات وكأنها تتسابق بتسلق العمود متجهة للأعلى نحو الضوء في حين تتساقط بعض أجساد من لا يقوون على الصمود. وهنا يبرز الفنان صراع الإنسان وتعاونه من أجل البقاء والصعود. رد فيجلاند على منتقدي منحوتات الهضبة بأنها "ديني".

الصورة
المتراصة البشرية لفيجلاند (العربي الجديد)
المتراصة البشرية لفيجلاند (العربي الجديد)

عجلة الحياة

في نهاية الحديقة وضع فيجلاند عجلة الحياة على شكل إكليل من النساء والرجال والأطفال ممسكين بعضهم ببعضهم وفي مواجهة ساعة شمسية ترمز للزمن وكأنه صراع بين الخلود والفناء. وقد صمم الفنان عجلة الحياة كما فعل بجميع أعماله بنماذج من الجبس، وهي موجودة في منزله الذي تحول لمتحف ويشكل جزءا من الحديقة، ثم طلب من مساعديه صناعة إطار فولاذي قطره ثلاثة أمتار ونحت التماثيل البشرية فيه من الطين وربطهم بالإطار بمشابك خشبية وأسلاك. عجلة الحياة، كما تصورها الفنان، هي رمز الخلود الإنساني حيث الاستمرارية من جيل إلى جيل، ومن الأطفال إلى الآباء والأجداد يسلم كل جيل للآخر أسرار البقاء.

الصورة
مجموعة اطفال منحوتة لفيجلاند (Getty)
مجموعة اطفال منحوتة لفيجلاند (Getty)

ويبدو للمتأمل لأول وهلة أن كل قسم في الحديقة يكاد يكون مستقلا عن الآخر، ولكن النظرة المتفحصة ستجعلك تدرك أن الحديقة وأقسامها ومنحوتاتها تشكل وحدة متسقة تعبر عن السؤال الوجودي الأبدي من أين؟ وإلى أين؟

ترك فيجلاند أثرين شخصيين له في هذه الحديقة، أولهما الجرة التي حوت رماد جثته بعد حرقها حيث أوصى أن توضع في أحد أبراج الحديقة، وثانيهما تمثال له يجسده وهو يرتدي ملابس العمل ومعه مطرقة وإزميل.

الصورة
منحوتات لفيجلاند على جسر الحديقة (العربي الجديد)
تمثال فيجلاند في مقدمة الحديقة (العربي الجديد)

فيجلاند النازي

اتُهم غوستاف فيجلاند بالتعبير عن الجماليات النازية من خلال إبراز عنصر القوة والجمال في الجسد الإنساني، وقد شاع هذا الاتهام أثناء الاحتلال النازي للنرويج حيث وصف أعضاء المقاومة النرويجية وبعض النقاد منحوتاته بأنها "تفوح منها رائحة العقلية النازية" وأن فنه متأثر ومشابه لفن وأعمال النحات الألماني أرنو بريكر الذي اعتبرت الدعاية النازية أعماله معبرة عن روحها ومناقضة لـ"الفن المنحط". يرد محبو فيجلاند بأن العمل على منحوتات الحديقة بدأ قبل وصول النازية وهتلر للحكم. كما رأى بعض النقاد أن أعمال فيجلاند تستفز مشاعر الإنسان المحافظ وأنها لا تناسب العائلات التي تزور الحديقة.

علاقة مع مونك

يعد إدوارد مونك أشهر فنان تشكيلي نرويجي كما يعتبر فيجلاند أعظم نحات، وقد تصادق الاثنان وعاشا بغرفة واحدة وتشاركا استديو في برلين، ولكنهما كانا يتجادلان حول الفن ووظيفته لدرجة أنه في إحدى المرات احتد النقاش بينهما فقذف فيجلاند صديقه اللدود مونك بأحد تماثيله النصفية وانكسر التمثال ولم يُعِد فيجلاند نحته. وعلى الضد من اتهام فيجلاند بنزعة نازية فإن النازية حظرت أعمال مونك واعتبرتها نموذجا للفن المنحط.

 

علاقة فيجلاند مع النساء

وُصف فناننا بالعناد والانطواء وسرعة الغضب وبالوقت نفسه بالكرم والحنان، وكان يعاني من موجات اكتئاب ولا يحب الارتباط بعائلة أو بالأطفال. أرتبط فيجلاند بعلاقات غرامية بعدد من عارضاته، وفي النهاية تزوج إحداهن، لورا أندرسن بعد ولادتها لطفل ثان، وقد طلقها لأنه لم يطق الحياة مع الأطفال، ولكنه التزم بدفع نفقات حياتهما. وكانت العلاقة الثانية أطول زمنا، 19 عاما، مع إنغا سوفرستن البالغة من العمر 17 عامًا واستمرت علاقته الأخيرة مع إنغريد ويلبرغ، 18 عامًا، وكانت تصغره بـ32 عامًا لمدة 15 عامًا، وقد تحملت كل امرأة منهن خيانته وهجره لها ومزاجه الصعب.

مدرسة العشاق

كل شيء يسير في أوسلو بهدوء. كانت المدينة بأحلى لحظاتها، دافئة ومشمسة على غير عادتها. كنت قادماً إليها من مدينة أمستردام وكأنني انتقلت من النقيض إلى النقيض. أمستردام متحررة أكثر من أي تصور، تُباع فيها المواد المحظورة في بلداننا بشكل قانوني، وترتفع فيها أعلام التحرر الجنسي والمثلية أكثر مما ترتفع أعلام الدولة. هنا في أوسلو لا وجود لهذا، فكل الممسوح به في هولندا ممنوع في النرويج. النقود السائلة نادرة، ولا مشافي خاصة ومعايير العناية بالمناخ والطبيعة والتربية والطبابة من أعلى المعايير العالمية. تنتشر المنحوتات بكل أنحاء المدينة فضلاً عن الحدائق الجميلة والمتاحف المتخصصة ودار الأوبرا، حيث كان لي حظ حضور أوبرا "مدرسة العشاق"، التي ألف موسيقاها فولفغانغ أماديوس موزارت، وكانت الفرقة دنماركية، ومن المفارقات أنها اتخذت من متجر إيكيا مكان الأحداث. المتحف الوحيد الذي لم أزره  في أوسلو هو متحف الفايكنغ والمغلق للصيانة والتجديد والموجود في جزيرة قرب أوسلو حيث يمكنك مشاهدة السفن التي بناها الفايكنغ وغزوا أوروبا بها. 

المساهمون