عمر فتحي وعماد عبد الحليم وفادي إسكندر: ثلاثة أصوات في جوار الصمت

عمر فتحي وعماد عبد الحليم وفادي إسكندر: ثلاثة أصوات في جوار الصمت

30 اغسطس 2023
كسر عمر فتحي قواعد النجومية (فيسبوك)
+ الخط -

كان عمر فتحي من أوائل من قدموا الأغنية التجارية الخفيفة أو ما يعرف بأغنية البوب المصرية، بينما حافظ عماد عبد الحليم على الأغنية التقليدية مثلما قدمها أبوه الروحي عبد الحليم حافظ، أما فادي إسكندر فقد ابتعد عنهما سواء في الشهرة التي حصلا عليها أو في خطه الفني، مروّجاً لما بات يعرف بشكل أبو بآخر بـ"الأغنية المستقلة".

لماذا ندمج هذه التجارب أو الأسماء الثلاثة؟ لأن الثلاثة، وفي فترة مبكرة جداً، وضعوا أسساً واضحة للأغنية المصرية الحديثة التي كانت لا تزال في طور التشكّل.

عمر فتحي

تعرف الجمهور إلى عمر فتحي (1952 ــ 1986)، لأول مرة تحت اسم محمد الهندي من خلال فرقة رضا. اجتذبه بعدها هاني شنودة إلى فرقته المصريين وقدمه باسم عمر جوهر، ليحقق شريطهما الأول "بحبك لا" نجاحاً كبيراً، بينما ترسّخت شهرته الحقيقية مع أغنية "8 ديسمبر" ليردد دائما أنها كانت "وش الخير عليه".
الخير الذي أصاب مطربنا بعدما تحوّل من عمر جوهر إلى عمر فتحي كان فياضاً. فقد أمسى خلال فترة قصيرة المغني المصري الأشهر، وشاع وقتها أن المغنين الآخرين إذا ما رغبوا في رفع أجورهم استأذنوه كي يرفع أجره أولاً، على أن يلحقوا به. وهناك واقعة شهيرة تروى في الوسط الفني أنّ الفنان مدحت صالح حين أراد الزواج، قصد فتحي يطلب منه رفع أجره حتى يستطيع هو بدوره القيام بذلك.
خلال هذه المرحلة، أي في النصف الثاني من السبيعينيات وبداية الثمانينيات، تحوّل عمر فتحي إلى رائد الأغنية الحديثة أو "الشبابية" كما كانت تسمى، وكان أول من كسر العادة في التزام المطرب بالبدلة على المسرح، إذ ارتدى الجينز.

حركته الخفيفة الراقصة على المسرح وأجواء البهجة التي أشاعها في أغانيه، حرّضت الكازينوهات الليلية على التعاقد معه للغناء، وإن وفق شروطه: الابتعاد عن الكلام المبتذل، ورفض "النقطة" (رمي المال على الفنان) ومصاحبة الراقصات، وتبعه في ذلك أبناء جيله، علي الحجار ومدحت صالح ومحمد منير ومحمد الحلو.
أعاد عمر فتحي مع آخرين تأسيس الأغنية المصرية على قواعد جديدة، اتسمت بالبساطة، حيث تراجع دور المغني ليفسح مساحة أكبر للإيقاع والتوزيع. قدم فتحي 11 ألبوماً خلال 10 سنوات، تعاون فيها مع أسماء مثل: هاني شنودة، ومحمد الشيخ، ومحمد قابيل، وحجاج عبد الرحمن، ومنير الوسيمي. ومن أشهر الأغاني التي قدمها فتحي: "ابسط يا عم"، و"على إيدك"، و"على فكرة"، و"تاني مرة متعملهاش"، و"عجبا لغزال قتال عجبا"، و"لو يا حبيبي"، و"لعل المانع خير" و"على سهوة"، و"قاضي الغرام"، و"يا مراكبي"...
كما سجل أرقاماً قياسية في إقامة الحفلات والأفراح، لكن هذا الإجهاد البالغ أثر عليه كمريض بقصور في الشريان التاجي، ليرحل مبكراً عام 1986 وهو الرابعة والثلاثين من عمره.

عماد عبد الحليم

لعلّ الصدفة وحدها هي التي جعلت سنّ عمر فتحي عند رحيله يقارب سنّ عماد عبد الحليم (1960 ــ 1995)، عند رحيله المبكر أيضاً. ولعبد الحليم صوت شبيه في خامته بصوت فتحي، لكن خلافاً لهذا الأخير استغرقت أغنية عبد الحليم في الأحزان، فجاءت تعبيراً عن حياة درامية مليئة بالأسى وشبيهة بدرجة ما بحياة أبيه الروحي عبد الحليم حافظ الذي التقطه من أحد الأفراح في مدينة الإسكندرية التي نشأ فيها، وبدأ العمل في شوارعها في سن صغير ليساعد أسرته الفقيرة المكونة من 9 أشقاء، منهم الملحن محمد علي سليمان.
تبناه حليم فنياً ومادياً وحرضه على حضور بروفاته. وهو ما حصل، لكن عماد عاش في القاهرة وحيداً، بعيداً عن أسرته، ليدرس في معهد الموسيقى العربية. ومع وفاة حليم (1977)، صدم الشاب اليافع، ليزداد شعوره بالوحدة.
بعد تخرجه من المعهد، أطلق ألبوم "ألوان" وحقق نجاحاً كبيراً، لتتوالى ألبوماته (14 ألبوماً)، كما شارك في 4 أفلام سينمائية إلى جانب عدد من المسرحيات. لكن كل هذا لم يعفه من الشعور العميق بالوحدة، وهو ما انعكس على ما قدمه من أعمال غنائية، مثل "ليه حظي معاكي يا دنيا كدة"، و"أنا مهما خدتني المدن"، "مانيش خاين"، و"وداع"، و"يتيم"، و"في قلبي جرح"، و"كأنك حد تاني"... ليلقبه الجمهور بـ"البلبل الحزين" و"الكروان الحساس".

وبينما مال مطربو جيله إلى التحرر من الصورة التقليدية للمغني حافظ عماد عليها من الغناء بالملابس الرسمية والتعاون مع ملحني الحقبة الحليمية، مثل بليغ حمدي وحلمي بكر إلى جانب الأخ الأكبر محمد علي سليمان.
رغم النجاح الكبير الذي حققه بين أواخر السبعينيات وأواخر الثمانينيات، إلا أن مدّ ما عرف وقتها بالأغنية الشبابية دفعه نحو الهامش، ليفشل ألبومه الأخير "راجع"، وتتبعه وفاته المفاجئة عام 1995، بجرعة زائدة من مخدر الهيرويين.

فادي إسكندر

في هذه الفترة التي ارتسمت خلالها ملامح حقبة فنية جديدة ظهر اسم ثالث هو فادي إسكندر (1940 ــ 2013)، غير أن خياره خلافاً لعمر فتحي وعماد عبد الحليم جعله على هامش السوق الغنائي.
في مقتبل حياته انطلق إلى لبنان بمساعدة الفنان الكبير فريد الأطرش، وهناك اتجه إلى التلحين، وبعد سنوات طويلة قضاها في بيروت أجبرته الحرب الأهلية على العودة (1975) بحصيلة كبيرة من ألحان الأغاني الوطنية اللبنانية، والأخرى المرتبطة بالحرب، وهو ما سينعكس على خياراته في مصر.
بمساعدة الموسيقار فتحي جنيد اعتمد إسكندر في الإذاعة مطرباً من الفئة الأولى، وأصدر أول ألبوماته.
جاءت معظم أغاني الألبوم من كلمات بيرم التونسي (الشاعر الأقرب إلى قلبه)، وارتكز فيها إسكندر على الغيتار فقط لكن لم يلق الألبوم نجاحاً، عندها اقترح عليه موزع أغانيه محمد عماد الشاطر إعادة إصدار العمل بتوزيع موسيقي مختلف، تتعدد فيه الآلات، ليصدر الألبوم عام (1984) من إنتاج واحدة من كبريات شركات الإنتاج "سونار" وهي نفسها التي أنتجت ألبومات محمد منير الأولى.

خلافاً لمعظم الأصوات ذات الشهرة في هذه الفترة جاء صوت إسكندر قوياً عريضاً تحليه الجدية وتكسوه الرصانة ما جعله يبتعد عن أداء الأغاني الرومانسية، كما جاءت أغلب خياراته لكلمات صعبة التلحين، وكثيراً ما كانت ثورية وصادمة.
اكتفى إسكندر بإصدار ألبومين ورغم تسجيله للثالث بعنوان "سلطان" إلا أنه لم يصدر، إذ كانت شروط السوق قد تحددت بعيداً عن خيارات إسكندر، ليختفي الفنان السكندري من الساحة، وليرحل عام 2013.

على اختلاف المسارات الثلاثة وتباين درجة نجاح أصحابها وشهرتهم في تلك الفترة المحورية بتاريخ الموسيقى المصرية، إلا أن السوق الغنائية لم يكن رفيقاً بأي منهم، فعمر فتحي الذي تقدم زميليه وصار المطرب الأول أجهده السوق حتى الموت، بينما ساهم انحسار النجاح عن عماد في وصوله لتلك النهاية المأساوية، وبلغ قمع السوق لفادي إسكندر الصوت المتمرد حد الانسحاب الاختياري، كل ذلك في إشارة جاءت مبكرة وواضحة إلى عدم التوازن في معادلة تحكم سوق الأغنية في مصر.

المساهمون