عمر أميرالاي في بيروت: مُوثِّق سيرة بلد وأناس

عمر أميرالاي في بيروت: مُوثِّق سيرة بلد وأناس

26 يوليو 2023
عمر أميرالاي: امتحان يجري على ضفاف الموت (فيسبوك)
+ الخط -

 

كلّ نشاطٍ سينمائي، تُعرض فيه أفلامٌ للسوري عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، يشكِّل إضافةً ما في الثقافة والفن والمعرفة، ويمنح شيئاً من متعة إعادة اكتشاف معنى الفيلم الوثائقي، وارتباطه بالفرد، إنْ يكن الفرد مخرج الفيلم، أو آخر صديقاً له، أو مواطناً يُعاني أهوال عيشٍ في بلادٍ مُنهِكة. هذا كلّه يزداد إيجابياتٍ إنْ تكن الأفلام المختارة غير متداولة، كغيرها من أفلامٍ له أكثر تداولاً في نشاطاتٍ ولقاءات ومهرجاناتٍ وتكريمات.

قول هذا متأتٍ من نشاطٍ يلي آخر، يشتركان معاً بعرض فيلمٍ أو أكثر لأميرالاي وعنه: "مهرجان ميزان السينمائي" ونشاط لـ"نادي لكلّ الناس" و"متحف سرسق". فالأول، المختصّ بأفلام وثائقية ودرامية تُعنى بالاغتيال السياسي، مُقام في "مركز مينا للصورة" بين 17 و19 يوليو/تموز 2023، في إطار نقاشٍ حول أنواع الاغتيال السياسي في العالم، مرفق مع عروض أفلامٍ تعاين العنوان الأساسي للنشاط، بينها "في يومٍ من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشال سورا" (فرنسا/لبنان، 1996، 50 د.، باللغتين الفرنسية والعربية). في الثاني، المُقام يومي 26 و27 يوليو/تموز الجاري (متحف سرسق)، تُعرض 3 أفلام قصيرة له، وآخر طويل بعنوان "عمر أميرالاي: الألم، الزمن، الصمت" (فرنسا/سورية، 2021، 109 دقائق) للسورية هالة العبد الله (يليه نقاش بينها وبين الكاتبة اللبنانية نجوى بركات).

في كلّ فيلمٍ من أفلام أميرالاي اشتغالٍ بصري يُفكّك بيئة اجتماعية، في سورية وخارجها. مشاهدة تلك الأفلام بحسب تواريخ إنتاجها تكشف، من بين أمور أخرى، تاريخ بلدٍ وتحوّلاته، والسلبي في التحوّلات طاغٍ، وحكاية سينمائي مهمومٍ بأحوال الناس، فيواجِه بالكاميرا نظام قمع وبطش وتنكيل، وحُكم يُلغي بلداً واجتماعاً وأناساً.

فأنْ يبدأ أميرالاي اشتغاله بـ"محاولة عن سدّ الفرات" (1970)، ناظراً في مدى إمكانية التغيير المطلوب، بعد أعوام الانقلابات والنزاعات الداخلية، ومدى مصداقية "رغبة" كهذه حينها، ومدى التطلّع الفردي (أميرالاي وجيله على الأقل) والجماعي إلى إصلاحٍ عام؛ وأنْ يكون "طوفان في بلاد البعث" (2003) مرآة 33 عاماً، بنبرة قاسية وغاضبة وحادة في انتقادها زمناً وأحلاماً ووقائع يومية، بمواربة سينمائية رائعة، وباحتيال درامي بديع؛ هذا غير عابر إطلاقاً، ولن يكون مجرّد صدفة. هذا مشروع حياة، والسينما الوثائقية، بالنسبة إليه، حياة تنهل من شقاء بلد واجتماع وناس ما يجعل كلّ فيلمٍ شهادة وفصلاً من ذاكرة فردية ـ جماعية.

أفلامه المنجزة خارج سورية تتكامل مع تلك المصنوعة فيها. إعادة المشاهدة متعة، رغم القهر والألم والغضب، ورغم حنين ذاتي إلى لحظاتٍ، قليلة للأسف، أمضيها معه في أكثر من حوار، وفي أكثر من جلسة.

في اليوم الأول من نشاط "نادي لكل الناس" و"متحف سرسق"، يُعرض فيلم هالة العبد الله، التي "ترسم (فيه) صورة مؤثّرة" لمن "أثرى السينما العربية برؤيته المثيرة للجدل حول السينما السياسية"، وخاصة "صناعة الأفلام الوثائقية المستقلّة"، بحسب المُعرَّف عن الفيلم (لم أشاهده)، الذي يُضيف التالي: "نشاطه النضالي في الدفاع عن حقوق المدنيين السوريين، وانتقاد النظام البعثي، أدّيا إلى حظر أعماله في سورية بشكل كامل. بعد وفاته في 5 فبراير/شباط 2011، عشية انتفاضة السوريين والسوريات، بدأت العبد الله عملاً استمرّ عقداً من الزمن لتكريم صديقها، ولتتأمّل في صناعة الأفلام كفعل مقاومة. في فيلمها هذا، جمعت مقاطع من مقابلات ومحادثات حميمة بينهما، تناولت الصمود والحياة والموت، وقوّة السينما الثورية".

في اليوم الثاني، 3 أفلام قصيرة لأميرالاي: "الدجاج" (سورية، 1977، 40 د.)، و"هناك أشياء كثيرة كان يُمكن أنْ يتحدّث عنها المرء" (سورية، 1997، 50 د.)، و"طبق السردين" (سورية، 1998، 18 د.).

 

 

لن يكون "الدجاج" مجرّد "تعليق اجتماعي على السياسات الاقتصادية" فقط، ولا مجرّد "توثيقٍ لظروف المُزارعين المتعثّرة في قرية "صدد"، بعد تشجيع الحكومة السورية سكّانها على التخلّي عن أنشطتهم التقليدية، والاهتمام بتربية الدجاج، وإنتاج البيض بحزم وتصميم". فهذا كلّه، رغم أهميته، أقلّ مما يتضمّنه فيلمٌ، يذهب بعيداً في قراءة آليات عمل حاكمٍ يزداد، في الأعوام الـ7 الأولى من تسلّطه على سورية، تفريغاً لحياة وسلوك وعلاقات. فـ"الدجاج"، بكونه تعليقاً وتوثيقاً، يقول إنّ العَفَن الحاصل في سورية مُنفلشٍ في أحوال الناس وأساليب عيشهم/عيشهنّ.

رغم أهمية ما يُقال في لقاء أميرالاي مع صديقه المسرحي السوري سعد الله ونّوس (1941 ـ 1997)، قبل أشهرٍ على وفاته، يطغى على إنجاز "هناك أشياء كثيرة كان يُمكن أنْ يتحدّث عنها المرء" انفعالٌ صادق إزاء احتضار صديق، وخيبات جيل. في حوار لي معه ("بدايات"، مجلة فصلية، العدد 17، 2017)، أسأله عن فيلمين له مع صديقين، أحدهما قبل الوفاة (ونوس) والآخر بعدها (سورا). أقول له: "أعتقد أنّ هناك "هيبة" ما في التعامل مع الصديق، تُحتّم اختلافاً في التعاطي السينمائي عن بقيّة الشخصيّات". يُجيبني التالي: "إنّها، في الواقع، الرهبة بعينها. امتحان يجري على ضفاف الموت. رهبة لا يغلبها إلّا الحبّ الذي تُكنِّه للصديق. لكنّ ذلك لا يُلغي الألم، بالطبع، ولا يتمّ من دون عذاب، لأنّه يضعك في تحدٍّ صارم لا تعرف كنهه ولا محيّاه. فمحبّة إنسان أمر واهٍ، بمقدار ما هو ملموس وحاضر في النفس. إنّك كالقابض على روح، لا تعي حرارتها إلّا لحظة انطفائها. فكلّما غاب صديق أو قريب، اقترب زحف اليباس إليك. أنا اليوم (بعد إنجازه "الرجل ذو النعل الذهبي" عام 2000) عند هذه العتبة من التأمّل".

ما يقوله ونوس قاسٍ رغم هدوء نبرة، لن يُخفيا (الهدوء والنبرة) حجم القلق والألم والخيبة. تعريف النشاط بالفيلم يذكر أنّ كلمات المسرحي "مهمومة ولاهبة"، وأنّها تبدو "وداعَ جيل اعتبر الصراع العربي ـ الإسرائيلي مصدر الخيبات". لكنْ، أتكون الخيبة نفسها ظلاً شبه خفي في "طبق السردين"؟ في الفيلم، عودة للمخرج، برفقة زميله المخرج السوري محمد ملص، إلى أطلال القنيطرة (الجولان) المدمّرة، التي تحتلها إسرائيل، ثم تتركها مهجورة بعد "حرب تشرين" (6 ـ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1973). يصعب الاقتناع بأنّها مجرّد عودة للوقوف على أطلالٍ. هناك نظرات تقول، أحياناً، أكثر من الكلام. هناك حركة وملامح ودمار وفضاءات واسعة تخلو من نبضٍ، وهذا أقسى.

المساهمون