"طيف إسطنبول" يخيمّ على سكّانها: كل التنميطات خاطئة

"طيف إسطنبول" يخيمّ على سكّانها: كل التنميطات خاطئة

18 ديسمبر 2020
أويْكو كارايَل بدور مريم في المسلسل (نتفليكس)
+ الخط -

يمنح مسلسل Ethos، أو "طيف إسطنبول" التركي، متعة خاصة لمتابعي المسلسلات غير الأميركية على "نتفليكس".

لا يدخل هذا العمل الدرامي في خانة الأعمال التشويقية، كما أنه لا يضمّ في صفوفه نجوماً عالميين معروفين، بل يحمل طابعاً مسرحياً بحوارات تشبه الهمس وبشخصيات تحاكي الواقع التركي، وتعكس تعقيدات النسيج المجتمعي، بطريقة تتحدّى التنميط.

منذ الحلقة الأولى وحتى نهايته يغوص المسلسل في أبعاد الصدمات والاكتئاب، كنتيجة للعلاقات البشرية المعقدة التي تحكمها الفوارق الطبقية والجندرية والثقافية، في بلد غني بتنوعه وفرادته.

يروي Ethos قصة مريم (أويْكو كارايَل)، الفتاة التي تبحث عن علاج لإغماءاتها المتكررة. وفي سعيها للتعافي تلتقي مع الطبية النفسية بيري (دفني كايالار)، التي تظهر كنقيض لها، ما يعكس الاختلاف بين الشخصيتين. فمريم فتاة بسيطة لديها دوام جزئي كعاملة تنظيف في منزل شاب عازب اسمه سنان. تعيش الشابة الجميلة في منزل متواضع مع أخيها ياسين (فاتح أرتمان)، وزوجته وأطفاله. وفي زحمة العمل والخلافات العائلية، تبحث مريم عن ذاتها وعن الحب.

على الطرف الآخر نتابع قصة الطبيبة التي تنتمي لطبقة ثرية، ذات تعليم عالٍ، تعاني بدورها من عجز في الحصول على توازن نفسي. هكذا تمثّل الشخصيتان الرئيسيتان عالمين مختلفين يشكلان جزءاً من المجتمع التركي في سعيهما لكسر الحواجز بينهما.

وإن كانت البداية تشي بأن البطلتين مجرد ترجمة تنميطية لطبقتي الفقراء والأغنياء، فإن أحداث المسلسل تكسر هذا التوقّع لتكشف أن البناء الدرامي للشخصيتين يتحدّى الصور والأفكار المسبقة لأفراد هاتين الطبقتين. فمريم، السيدة المتدينة والأمية، ليست ضعيفة ولا متحجرة، بل إنسانة منتجة ومحبة وتبحث بفضول عن جوهر الأشياء. أما بيري، القادمة من مجتمع أرستقراطي، فليست بالضرورة شخصاً منفتحاً على الآخر، بل تعاني، وعلى النقيض مما تحتمه وظيفتها كطبيبة نفسية، من عقدة التمييز تجاه النساء اللواتي يرتدين الحجاب وينتمين لطبقة أقل حظاً من طبقتها.

إن كانت البداية تشي بأن البطلتين مجرد ترجمة تنميطية لطبقتي الفقراء والأغنياء، فإن أحداث المسلسل تكسر هذا التوقّع لتكشف أن البناء الدرامي للشخصيتين يتحدّى الصور والأفكار المسبقة

يشرح العرض ديناميكية المجتمع الذي يعاني من انقسام حاد بين طبقاته، ما يجعل الشخصيات الأساسية في حالة صراع بحثاً عن الهوية. فالصراع الطبقي، والصراع الديني، وصراع الحداثة والتقاليد، والصراع الجندري جزء من القضايا التي تساهم بتكوين الهوية التركية. وهي من القضايا التي ينجح المسلسل، رغم بساطة حواراته، بترجمتها من دون السعي إلى التنظير وتعقيد الأحداث.

نتابع على سبيل المثال قصة زميلة بيري الطبيبة غولبين (تولين أوزين)، التي تدرك تحيز الأولى وعدم كفاءتها في متابعة حالة مريم. تمثل غولبين ببساطة الإنسان الساعي لرأب الصدع بين الطبقات. فنراها تحاول الخروج من طبقتها الأدنى اجتماعياً وجذورها الإثنية الكردية، من خلال تعليمها الذي يتيح لها دخول العالم الأوفر حظاً والأكثر دخلاً. لكنها لا تستطيع التخلص مما يربطها بعالمها الذي يستمر بمحاصرتها ويتسبب لها بإحراج في مكان العمل، عندما تقتحم أختها مكتبها وتقوم بتحطيمه.

من المفاهيم المهمة التي يعمل المسلسل على تفكيكها أيضاً، هي تلك المرتبطة بالذكورة وتنميطاتها. فالشخصيات الذكورية تواجه أسئلة مهمة ترتبط بـ"الشرف"، والحب، والحماية، والعلاقة مع الأم، والحبيبة، والزوجة، والأطفال. لذا نرى مثلاً شخصية ياسين (الأخ الأكبر لمريم)، تراوح بين القسوة الظاهرة والمحبة والحنان. كذلك شخصية شيخ القرية، الذي قد يبدو تقليدياً، لكنه رغم ذلك يبدي تفهماً لافتاً في بحث ابنته عن الحرية خارج ما تفرضه قيود المجتمع.

عامل آخر ساهم في فرادة هذا المسلسل هو الإصرار على عكس التنوع اللغوي في المجتمع التركي، حيث تتكلم عائلة غولبين باللغة الكردية. لذا من النصائح المهمة للاستمتاع بالعمل، الاستماع له بلغته الأم مع الترجمة. فطريقة حديث الشخصيات وأسلوبها بالتعبير لا يظهر إلا بلغتها الأصل.

D2C0B5EC-FEBE-40B8-B8B8-0203856D38C2
D2C0B5EC-FEBE-40B8-B8B8-0203856D38C2

فؤاد مسعد

كاتب صحافي ومحلّل سياسي يمني.

 باختصار يبدو أن صنّاع العمل ركزوا على بناء الشخصيات، وهو ما أعطى المسلسل بعداً خاصاً، وإن كان ذلك قد أبطأ الحدث الدرامي، خصوصاً في الحلقات الأخيرة. وقد يعود ذلك للخلفية المسرحية لمخرج وكاتب النص بيركون أويا Berkun Oya، التي تنعكس على اهتمامه بالحوار الذي يحمل ثقلاً درامياً. في النهاية يبدو أن سؤال بيركون أويا يدور حول قدرة الإنسان التركي المعاصر على إعادة البحث في العناصر التي تشكل هويته وفهمها. يدعو Ethos إلى رفض تنميط الآخر ورفض نظام التسلسل الهرمي الذي يهمش إنسانية الطبقات الأقل حظاً ويجعل الطبقات الأغنى تبدو أكثر تصلباً.

المساهمون