صمتنا وذكاؤهم

صمتنا وذكاؤهم

22 يونيو 2022
ما الذي يعرفه عنا الذكاء الاصطناعي؟ (طارق كيزيلكايا/Getty)
+ الخط -

في زمنٍ ليس ببعيد، كنّا نتندّر بأنّ العمّ سام يعرف عنّا كلّ شيء. ولم يكن ذلك صحيحاً مائة في المائة. فالعمّ سام لم يكن يهتمّ أساساً بمعرفتنا جميعاً، ولا حتّى أغلبنا. كان يعنيه قلّةٌ منّا، إمّا يراها خطراً عليه، أو يرى فيها حلفاء المستقبل. وهؤلاء كان يحرص على معرفتهم من كثب.

أنسى أحياناً أنّ أطفال ما بعد الألفين باتوا راشدين اليوم، وبعضهم يقرأ الصحف. وقد يكون مفيداً التوضيح أنّ العم سام لقب الولايات المتّحدة، إذا لم تمرّ معكم المعلومة بعد. أمّا عن تاريخ اللقب، فالقصة موجودة عند العمّ غوغل، اسألوه عنها. المهمّ، أنّنا كبرنا على فكرة أنّ العمّ سام يراقبنا جميعاً، وقد يستدعينا في أي لحظة. وتفسير منبع هذه الفكرة موجودٌ أيضاً عند العمّ غوغل.

اليوم بعضنا بات يعرف أنّ العمّ سام ليس متفرّغاً لنا بالشكل الذي نتخيّله، ولا معنياً بتسجيل تفاصيل حياتنا كما يفترضه غرورنا. لكنّ الأغلبية تضحك عندما يقترح فيسبوك مواضيع مرتبطة بحديثٍ أجريناه بالأمس بجانب هاتفنا. وجميعنا يستكين لما تقدّمه لنا خرائط غوغل من مقترحات وخدمات كلّما تنقّلنا إلى منطقة جديدة لا نعرف عنها شيئاً، انطلاقاً مما يعرفه غوغل عنّا في يوميات حياتنا.

وعندما يُثار الجدل في دول الغرب عن الخصوصية، جميعنا يضحك، لأنّ جيراننا قضوا على مبدأ الخصوصية حتّى قبل وصول الإنترنت إلى عالمنا. حتّى في الغرب، بعد انتهاء الحملات المطالبة بالخصوصية، يعود أغلب المستخدمين للتخلّي عن جزءٍ كبير منها مقابل الخدمات التي يحصلون عليها. وباتت البشرية بأجمعها تتّجه نحو تقبّل فكرة تسليم معلوماتنا كافة لغوغل وأخواته. لكن ما المعلومات التي نسلّمها فعلاً؟ وما الخيارات التي يعطينا إياها ذكاؤهم الاصطناعي؟ وما الصورة التي يشكّلها عنّا أساساً؟

عندما يكون خيارنا أمام منتج ما، أن نحبّه أو لا نحبّه، إمّا أن نضغط القلب الأحمر، وإما أن ننصرف عنه، تضيق مساحة التعبير عن رأينا. ففي الغالب، نحن لا نملك الوقت لنعلّق على كلّ منشور بتوضيح موقفنا ورأينا ومشاعرنا الكاملة تجاهه. فتتشكّل هويتنا بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي الذي يحاول فهمنا، عبر تراكمات لقلوبٍ حمراء وزعناها، وعبر تجاهلاتٍ لما قد يعنينا، لكنّنا مررنا عليه في الوقت الخطأ. وقد نضغط أحياناً على قلبٍ أحمر لندعم صديقة دون أن نوافقها حقيقةً على ما تقوله. أو نشارك فيديو استفزّنا لنشارك غضبنا مع الآخرين، لكنّنا نكتفي بتعليق حيادي من نوع "لا تعليق". فكيف يفسّر الذكاء الاصطناعي اهتماماتنا بهذه الحالة؟ ولماذا نهتمّ بكيف يرانا؟

غوغل يتفاخر بأنّه يعرفنا فعلياً على حقيقتنا. كثيرٌ منّا يأبى الاعتراف، حتّى لنفسه، بهواجسه، ونقاط ضعفه، لكنّه يلجأ إلى الصديق غوغل ليسأله عن حلول لمشاكله الشخصية، وعن تفسير لأرقه، وعن تشخيصٍ لعوارضه الصحية. غوغل يقول إنّه سيكون الأكثر دقّة في توقّع نتائج الانتخابات، بناءً على بحثك ومشاهداتك ليوتيوب وتفاعلك عبر مواقع التواصل ومراسلاتك مع عائلتك.

موقف
التحديثات الحية

الحمدلله أنّه في جانبنا من العالم، نتيجة الانتخابات ليست مرتبطة فعلياً بأصواتنا، وأنّ توقّعات غوغل لن تصدق إلا في الديمقراطيات. لكن بعيداً عن الانتخابات، فلننظر لما يجمعه الذكاء الاصطناعي في السيليكون فالي عن هويتنا العربية واهتماماتها.

ما الفيديوهات التي تحصد ملايين المشاهدات؟ وما كمّية بحوثنا باللغة العربية؟ وما نوع المحتوى الموجود باللغة العربية؟ ثم ماذا عن تفاعلات بعضنا مع بعض على الإنترنت؟ ماذا عن التنمّر المستشري، والذكورية المستفحلة، والجيوش الإلكترونية التي تحرص على الرد ببذاءة وتسخيف أي كلام منطقي بشتائم أو باغتيالات معنوية للأشخاص؟ الأغلبية مقتنعة بأن لا فائدة من الكلام أمام هذا النوع من الردود، وأنا منهم، لكن ما الذي يراه الذكاء الاصطناعي في صمتنا؟ هل يبني صورةً أنّ من الطبيعي بين البشر أن تُشتم امرأة عندما تعبّر عن رأيها؟ أنّ العنصرية عادية؟ والطائفية عادية؟ وأنّ من المنطقي أن تُقتل إذا خالفت آراء السلطة الحاكمة؟

استقالت مديرة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في غوغل قبل عام احتجاجاً على تخاذل المؤسسة في مواجهة عنصرية الذكاء الاصطناعي وذكوريته، وأطلقت جمعية للتوعية على ضرورة متابعة ما تتعلّمه الآلات عنّا. وليست وحدها، بدأت تتشكّل الكثير من الجمعيات لمراقبة الآلات، حتّى إنّ هيومان رايتس واتش تؤسس لوحدة مراقبة الذكاء الاصناعي وانتهاكاته لحقوق الإنسان. وأنا أثق بأنّهم في الغرب لديهم ما يكفي من الوقت والطاقة والرفاهية ليتابعوا الملف. لكن من يتابع ملفاتنا، نحن المستنزفين في هذه البقعة من الجغرافيا ببديهيات الحياة، من خبز وماء وأمان، نحن المستسلمين للعمّ سام وللعمّ غوغل وكلّ من يريد أن يتنصّت ويراقب ويملي علينا ما نفعله، طالما تركنا نعيش بسلام؟

لكن هل سنعيش فعلاً بسلام إذا لم نفكّر في مستقبلنا البعيد؟

المساهمون