شمالي غزة يغرق في الجوع بعيداً عن الكاميرات

شمالي غزة يغرق في الجوع بعيداً عن الكاميرات

12 مارس 2024
من تشييع الصحافي الشهيد محمد سلامة الأسبوع الماضي (أشرف عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

لم تسلم أي منطقة في غزة من السياسة الصارمة والوحشية التي تقودها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المواطنين في القطاع. لكن الجيش أوغل في سياساته التي تفضي إلى تجويع كل من تبقى ولم يستطع مغادرة المناطق شمالي غزة تحديداً. حيث أعلن جيش الاحتلال في الأيام الأولى للعدوان أنه يتوجب على المواطنين الخروج من مناطق مدينة غزة والشمال نحو المناطق جنوبي القطاع، في ترسيخ للفصل العسكري بين مناطق القطاع. تبع هذا الفصل حالة من التجويع الممنهج الإضافي لكل من اختار البقاء في المناطق الشمالية بشكل خاص. 
بالتزامن مع حالات النزوح المستمرة من شمالي القطاع، ظهر نزوح للتوثيق أيضاً. نزحت الكاميرا ونزح الصحافيون. سارت الكاميرا  من الشمال إلى الجنوب، وغرقت هذه المناطق بالمجاعة والموت والإبادة، بصوت خافت، ومن دون وهج الكاميرات. غابت الأصوات وصار التوثيق فردياً يشبه المناجاة والصراخ، مع بعض الأصوات القليلة جداً التي بقيت تبث من الشمال.

الصحافيون الباقون في شمالي غزة

أما الصحافيين الذي اختاروا البقاء في جباليا وبيت لاهيا وباقي مناطق شمالي غزة فيعانون الإرهاق والجوع، حالهم حال كل الغزيين في تلك المنطقة. وقد عبّر هؤلاء عن مأساتهم بشكل متكرّر عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كما واكبوا عملية الإنزالات الجوية التي تحصل في شمال القطاع، ولم يترددوا في انتقادها، لما تحمله من مشاهد إذلال للغزيين. 
وكتب مراسل التلفزيون العربي إسلام بدر عبر حسابه على "إكس": "إحنا آسفين... أوقفوا الإنزالات الجوية... الموت جوعاً أشرف مما يجري". أما مراسل قناة الجزيرة في الشمال أنس الشريف فكتب "جاء رمضان وغزة ليست بخير، على موائد سحوركم تذكروا أن أكثر من 2 مليون نازح في غزة يعيشون في مخيمات النزوح بلا ماء ولا طعام ولا كهرباء. عندما تجتمعون في رمضان مع عائلاتكم، تذكروا أن المكان الذي تجمعت فيه عائلات غزة كان تحت الأنقاض. عندما تلتقون أطفالكم في السحور تذكروا أنه ما من عائلة في غزة إلا ولديها شهيد وجريح ومكلوم. على موائد إفطاركم تذكروا أن غزة ينهشها الجوع، ويقرصها البرد، ويقتلها المرض، ولا تجد ما تفطر عليه...".
الصحافي حسام شبات الذي بقي في الشمال هو الآخر، بينما نزحت عائلته جنوباً، فإلى جانب عمله كصحافي يغطي حرب الإبادة، بشارك في حملات إغاثية لتوفير الطحين والطعام في مراكز الإيواء وبيوت الشمال. وقبل أيام قليلة، وأمام الواقع المأساوي في القطاع كتب شبات: "في البداية، قررت أن أساعد شعبي ومجتمعي أولاً، وكنت أدعم شمال غزة منذ أشهر وقد نجحت بذلك بفضل دعمكم ووقوفكم بجانب أهلكم في شمال غزة"، ثم تحدّث عن الثمن الذي دفعته عائلته نتيجة عمله كصحافي "عائلتي فقدت كل شيء بسبب مهنتي. تواصلت معي القوات الإسرائيلية بشكل مباشر وهددتني، ومن ثم قامت بقصف منزل عائلتي، وقد بنيت هذا المنزل بدمائنا وعرقنا. والآن، تجد عائلتي المكونة من 13 فردًا نفسها تعيش في خيمة".

غزيون بين الجوع والتعتيم

كانت وكالة أونروا قد أعلنت قبل أسابيع عبر صفحتها على منصة إكس عن الصعوبات الهائلة التي تتعرض لها وتمنعها من إدخال أي مساعدات إلى شمالي غزة منذ 23 من يناير/كانون الثامي الماضي. في حين أعلنت منظمة الأغذية والزراعة تعليقها العمل في شمالي غزة إلى أن يسمح الاحتلال بالتوزيع الآمن للغذاء.
في حديث أجرته "العربي الجديد" مع مواطنين يواجهون خطر الإبادة والمجاعة في شمالي القطاع، قالت نور حماد (بيت لاهيا): "الطعام شحيح جداً، الفقير يموت جوعاً في الشمال الآن. دفعت عائلتي 1500 دولار لشراء سكر وأرز وصلصة طماطم بالإضافة لعلف الحيوانات (نجدها بصعوبة). كيلو الأرز ثمنه 100 شيكل، رطل علف الحيوانات 120 شيكل. اليوم، اشترينا أربع بيضات، الواحدة بـ4 شيكلات. 25 كيلو من الطحين الأبيض يباع الآن بالمزاد العلني وثمنه 3000 شيكل.
وأضافت حمّاد: "نصنع الخبز من شعير الحيوانات وعلف تسمين الأرانب، نقوم بخلطه بالماء ونضيف كميات كبيرة من الخميرة. طعمه سيئ جداً وقاس. نعاني من أوجاع مستمرة في المعدة واستفراغ أحياناً بعد أكله. نأكله لسد الجوع، مرة واحدة في اليوم. اشترينا رطلين منه، سنخبئها لشهر رمضان... اتفقنا أن نأكل رغيفا واحداً كل يوم".
وعند سؤالها عن التغطية الإعلامية للشمال، أجابت حمّاد: "ما عنا حدا يغطي أخبارنا، كلهم طلعوا عالجنوب، صار الكل يحكي عن المجزرة المحتملة هناك ونسيونا" وأضافت: "حتى الصفحات الإخبارية التي نتابعها بطّلت تجيب إشي".

في حين قالت منى سلامة (الجلاء): "يومياً نذهب لنبحث في السوق عن أي شيء يمكن أكله أو شراؤه: خبيزة، بطاطا، بصل أو خلافه. توفرت البطاطا لفترة بسيطة ثم اختفت، كان أغلب اعتمادنا أخيراً على الأرز الذي بات غير متوفر في السوق. بالإضافة لسعره الخيالي الذي وصل لـ90 شيكل مقابل كيلو واحد. كل يوم تصبح الأسعار خيالية أكثر فأكثر. مهما كان حجم الأموال المدّخرة، ستنفد مع هذا الوضع غير الطبيعي". وأضافت "اشتقت للحياة بشكلها الطبيعي، اشتقت إلى الأكل كما كنت أفعل في السابق، اشتقت لطعم الخبز، أنا وكل من في الشمال لن نسامح أي شخص قادر على إنهاء هذا الجنون ولا يفعل ذلك".

محاولات نقل الصورة من شمالي غزة

يقول يوسف زقوت من مدينة غزة: "لقد نسينا الطحين، في الشمال نقضي اليوم على جزرة، لا يوجد طعام مطلقاً. الناس جاعت تماماً... نزح الصحافيون. لم يتبقّ سوى بعض أشخاص ينقلون الصورة عن الشمال. نحن نحاول بشكل فردي أن ننشر عن المناطق التي نسكنها. حتى الصحافيون المتبقون لا يستطيعون تغطية المناطق كلها. لو كان هناك تغطية كبيرة لما يحصل في الشمال، ربما كان الوضع أفضل".
أما ع.ح. من الشمال أيضاً فيستعيد قصة جاره الصحافي "كان يغطي ما يحصل هنا، لكن الاحتلال استهدف منزله... الصحافيون غائبون، وحالنا يسوء. أنا أملك ما يكفي من المال لأشتري الطعام، لكن الغذاء غير متوفّر. نأكل الآن طعام الحيوانات. كان وزني 75 كيلوغراماً قبل الحرب، وصل الآن إلى 45 كيلو. فكي يؤلمني من الجوع".

الحرب على الصحافيين

يستهدف الاحتلال الصحافيين الغزيين في مختلف مناطق القطاع، وقد تجاوز عدد الصحافيين الشهداء منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، 133 شهيداً قتلهم الاحتلال. وطالبت منظمات دولية عدة من إسرائيل وقف استهداف العاملين في الإعلام وتأمين حماية لهم، خصوصاً أنهم الوحيدون الذين ينقلون ما يحصل في القطاع، في ظل منع المراسلين والمصوّرين الأجانب من دخول غزة، سواء عبر معبر رفح أو معبر بيت حانون.

المساهمون