شركات الإنتاج الأميركية: هل ثمة شيوعيون في هوليوود؟

شركات الإنتاج الأميركية: هل ثمة شيوعيون في هوليوود؟

25 مايو 2023
من تظاهرة يزعم أعضاؤها أن هناك شيوعيين في هوليوود (Getty)
+ الخط -

تجد شركات الإنتاج الدرامي نفسها في موقعٍ فريد اليوم. من جهة، تلعب هذه العمالقة دور الشرير في الحكاية التي تتصارع فيها مع الكتّاب الذين لا يزالون مستمرين في إضرابهم المتمركز حول الأجور والضمان الوظيفي. بينما تلعب بعض هذه الشركات، في الوقت نفسه، دور البعبع على جبهة أخرى؛ جبهة ثقافية تشتعل معاركها في الولايات المتحدة، ثم تنتقل إلى باقي أنحاء العالم، وتُتَهم فيها هذه الشركات بكونها "يساريًة"، بل وشيوعية أحياناً، لأسبابٍ تتعلق بالمضامين التي تنتجها وتصل أحياناً إلى تفاصيل، كمجرد حضور شخصية ملونة في عرضٍ ما، كما يدل الغضب الأخير حيال أداء ممثلة سوداء لشخصية "حورية البحر"، على سبيل المثال لا الحصر.

ليست هذه الاتهامات بجديدة، إذ يمكن تتبعها، بشكلها الحالي على الأقل، بضع سنين إلى الوراء، إلا أن حوادث مثل المواجهة بين "ديزني" والمرشح الرئاسي المحتمل وحاكم ولاية فلوريدا الحالي، رون ديسانتيس، قد أزكت نارها، ناهيك عن المفارقة التي حدثت بسبب الإضرابات الأخيرة، ودفعت التناقضات لتظهر بأوضح صورها، عن مفهوم الشركة العملاقة اليسارية وصعوبة تصوّر هذا الكائن الهجين.

قدمت نايومي كلاين بداية موفقة لهذه الحكاية. ففي ردٍ على اتهامات وجهها نائب أميركي لشركة ديزني بكونها شيوعية، سخرت الكاتبة الكندية من هذه الاتهامات، مستذكرةً جدها الذي نظّم أول إضرابٍ لرسامي الشركة عام 1941 وطُرِد على إثره، قبل أن يفيد والت ديزني بشهادته ضد كلاين وباقي العمال المضربين أمام لجنة الأنشطة غير الأميركية، ويصفهم بالشيوعيين في زمنٍ كانت هذه التهمة كفيلة بتدمير حيواتهم. يتضح حجم المفارقة اليوم مع حجم الأدبيات التي تناولت العلاقة المريبة بين هوليوود والبنتاغون، وقامت على تقديم التسهيلات والدعم مقابل المضامين الصديقة لأميركا.

إلا أن ممارسات كهذه، وغيرها مما من شأنه إبعاد شبح تهمة "الشيوعية" عن شركات بهذا الحجم، لم تختف. إذ كان العاملون في حديقة ديزني في ولاية فلوريدا العام الماضي فقط، يشتكون من ضعف أجورهم، التي وصلت بعد مفاوضات عدة إلى حد الـ15 دولاراً للساعة الواحدة قبلها بعامٍ واحد فقط. وعلى صعيد أوسع، تشترك إمبراطورية "ديزني" في كونها جزءًا من ظاهرة تركيز ملكية وسائل الإعلام كما تتجلى بأوضح صورها في الولايات المتحدة، مسيطرة على 28% من هذه "السوق" بعد استحواذها على "توينتي فيرست سنتشوري فوكس"، لتتقاسم السوق مع بضع شركات أخرى، مثل "كومكاست" و"سوني" وغيرها.

وفي عالمٍ أقل "واقعية"، تلعب أي شركة تعمل بهذه الطريقة أدواراً سلبية (كما نعرف من وايستار رويكو، آخر هذه الشركات) ولا يمكن تصور عملٍ درامي ترتدي فيه رداء البطل اليوم، فكيف قُدِر لهذه الشركات -وبعضها مسؤول عن إنتاج هذه الأعمال الدرامية نفسها- أن تشق طريقها نحو البطولة؟

ليس ثمة إجابة بسيطة عن هذا السؤال، لكن البداية من المضمون نفسه، من المحتوى الذي يقدّم شركات شريرة وأبطالاً خيرين قد يشكل نقطة جيدة. من سيعترض على منصة تبث الثورة وتنصر الفقراء وكل المهمشين؟ واللافت أن هذه المفارقة يمكن رصدها على عدة أصعدة، خارج الإنتاج الدرامي حتى وبالطريقة نفسها. فمع الإمكانيات الهائلة المتاحة اليوم للشركات لتفهم جمهورها وخصائصه أكثر مما يفهم أفراد هذا الجمهور أنفسهم أحياناً، تقل المخاطر ويسهل تحديد أي الاتجاهات هي التي تهب منها الريح.

وإذا كانت الشرائح الأكثر أهمية للشركات، من أبناء وبنات أجيال الألفية وجيل زِدْ، أكثر حساسية تجاه قضايا كالتمييز العنصري والجنسي والتغير المناخي وغيرها، فإن الشركات لن تجاريهم وحسب، بل ستبدو أحياناً السباقة التي تلعب دور القيادة عبر كونها مثالاً يُحتذى. يجمع كثيرون على كون هذا السبب الدافع الرئيسي وراء هذا الميل، مردوداً ببساطة إلى الجذر الأساسي: تحقيق الأرباح، وهو ما يقول المحافظون، للمفارقة، إنه يُهدَد حين تقرر هذه الشركات التطرق للسياسة وعدم الاكتفاء بمجرد البيع، وكأن هذه المفاهيم كانت منفصلة في أي وقت مضى.

وللوهلة الأولى، قد يبدو الوضع مثالياً، وكأنه وقف عند نقطة توازن تُرضي تطلعات المستثمرين ومتطلبات الجماهير في الوقت ذاته، لكن هل يمكن أن يكون كذلك فعلاً؟ تقول الإضرابات الأخيرة، بما فيها من تناقض بين حالة الشركات من جهة وعمالها من جهة أخرى، عكس ذلك. فرغم كل الحديث عن "المسؤولية الاجتماعية" لا يزال المبدأ الرئيسي، ذاك الذي يقول باستحالة تماشي مصالح هذين "الغريمين"، سارياً اليوم، بقدر ما سرى سابقاً، قبل أن يتهيأ للبعض أن هذه الشركات لحقت بركب الثورة.

أكثر من ذلك، يذكر المرء دائماً قاعدة شديدة الأهمية، وهي أن الميزانية المخصصة للـ"تسويق"، عند شركات الإنتاج وغيرها، ليست إلا جزءًا من "كلٍ" أوسع وميزانيات أخرى، لا تختلف وحسب، بل تعمل بشكلٍ معاكس أحياناً لما تحاول ميزانيات التسويق بناءه، وربما افتُتِح مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP27 في مصر بهذه الطريقة، حين بدت رعاية كوكا كولا للحدث كنكتة سمجة لكل من سمعها، أو سجل تبرعات الشركات "التقدمية" للمرشحين الجمهوريين. يمكن ذكر العديد من الأمثلة التي تؤكد الفرضية ذاتها، والتي كانت حتى وقت قريب بديهية لا تستلزم النقاش حتى؛ ليس في منظومة عمل هوليوود -وبالامتداد الشركات الكبرى- ما يوحي اليوم بأي شيوعية.

ولمّا كان تقديم هكذا ادعاء يقول الكثير عمّن يطلقونه أو يصدقونه، فما الذي يمكن أن يقوله أيضاً؟
بدايةً، ليست هذه المسائل شديدة "الأميركية" كما قد يتخيل إلينا، إذ أثبت الجدل حول "الملكة كليوباترا" أن هذا النقاش لم يعد محصوراً في حدود الولايات المتحدة وبثنائياتها الضيقة، وينطبق الأمر ذاته على العاملين بالكتابة أو الحقول الثقافية الذين لا يجدون سوق عملٍ أكثر ودية أينما كانوا اليوم.

سينما ودراما
التحديثات الحية

وكما يذكرنا فالتر بنيامين في مقاله "المؤلف بوصفه منتجاً"، لا تنحصر معادلة إنتاج الفن الثوري أو "التقدمي" -إن اتفقنا على تسميته بذلك- بالمضمون الذي يقدمه هذا الفن، إذ إن "الجهاز البرجوازي للإنتاج والنشر يمكنه استيعاب كميات مذهلة من الثيمات الثورية ويمكنه تعميمها، في الحقيقة، من دون أن يطرح جدياً للتساؤل وجوده الخاص"، ما يتطلب تفكيراً معمقاً في هذا الجهاز وأسلوب عمله، وليس مجرد الانحصار بما يصل إليه وما ينتج عنه بمعزل عن سياقه، وهو تفكير لن ينحصر بالقطاع وحده بأي حال، وتستدعي أزمات السنوات الأخيرة الحاجة إليه اليوم.

المساهمون