سويلم وعبّاس: حلقة ربط تُرسِّخ أناساً في ذاكرة فرد

سويلم وعبّاس: حلقة ربط تُرسِّخ أناساً في ذاكرة فرد

25 ديسمبر 2023
هيام عبّاس ولينا سويلم: أرشيفات تسرد حكاية عائلة (براين دي ريفييرا سيمون/Getty)
+ الخط -

 

(*) شكّلتِ نوعاً ما رابطاً بين مختلف أجزاء الفيلم، أو قطع البازل التي تكوّنه، خاصة أنّ علاقة ابنتك معك تجد امتداداً أو تبئيراً مرآوياً لها في علاقتك مع أمك وجدتك.

هيام عبّاس: نعم. أنا حلقة الربط. أي حين تحكي لينا قصة أمي، لا تتمكّن من الذهاب إليها من دون المرور بي، لأنّ وجودي في حياة لينا رسَّخ أمي في ذاكرتها. لما ولدت لينا، وكنت آخذها إلى فلسطين، تربّت مع أشياء وذكريات معيّنة، مَكّنت من تركيب أجزاء بازلها الخاص من المحبة التي أخذتها، والشجر الذي كانت تتسلّقه، والسرير الذي كانت تنام عليه، والأكل الذي كانت تتناوله، واللغة العربية التي كانت تتحدّث بها. كلّ ذلك كَوَّن شخصيّتها، كما تحدّثت عنها بصوتها في الفيلم. كانت، كلّ مرة، تنطلق من إحدى مكوّناتها لتحكي عنّي أو عن جدّتها، حتّى تصل إلى جدّتي أم علي، باعتبارها شخصية قمّة في التركيب، هي التي دفعتنا إلى أنْ نحكي هذه القصة أساساً.

ربما نرحل لنعيش جسدياً تجارب في أماكن أخرى. لكنّك، في كلّ ما تحمله معك ويُكوّنك كإنسان منذ الطفولة، تكون فلسطينياً. لا أظنّ أنّ في وسعك، يوماً ما، أنْ تُغلق الباب وتقول: "دعكم في فلسطين. أنا الآن خارج حساباتكم". ذات مرة، كنت أتناقش مع أصدقاء، فقلت: "لا أعرف لماذا أحسّ أنّي أحمل السلّم بالعرض". تعرف هذا المثل؟ أنْ تحمل سُلّماً بالعرض يعني أنّك تصطدم مع كلّ ما تمرّ به. قلت للينا، مرة: "اليوم، استطعت أنْ أحمل معي السلّم بشكل عمودي، فأصبح بإمكاني على الأقل أنْ أمرّ من الأبواب بسهولة أكبر". تأقلمت مع السلّم، لكنّه لا يزال موجوداً معي. اليوم، فلسطين سُلّمٌ أحمله على ظهري.

لا أعرف إنْ يكن هناك أناسٌ استطاعوا أنْ ينجحوا في الكَفّ عن كونهم فلسطينيين. ربما يكون هذا مُمكناً. لكنّ الإنسان، برأيي، لا يتمكّن أبداً من الانسلاخ كلّياً عن جذوره.

 

(*) هناك سؤال حساس، يتعلّق بالفيلم الوثائقي: الأداء أو تمثيل دور. السؤال يُطرح بمجرّد ظهور هيام عبّاس أمام الكاميرا، خاصة أنّ حضورها طاغٍ، لأنّها ممثلة كبيرة. لكنّك وجدتِ حيلة ذكية لتفادي ذلك، باللجوء إلى مَشاهد إعادة تمثيل مقاطع من قصتها.

لينا سويلم: منذ البداية أردتُ أنْ أفعل ذلك، لأنّي وجدت بالفعل أنّه سُمح لي بالحصول على قليل من المرح، وأخذ مسافة من شيء عاطفي أكثر من اللازم، حتى أسمح لأمي وأخواتها بالاستمتاع بحكي قصصهنّ أيضاً. من جهة ثانية، فهمت أنّ هناك أشياء كانت مُعقّدة جداً، بحيث إنّه لا يمكن مناقشتها وجهاً لوجه. في أي حال، لم تكن مُثيرة للاهتمام بالنسبة إلينا، لأنّها تأخذنا إلى أماكن لم نكن فيها مرتاحين، بينما تسمح لنا إعادة التمثيل بإضفاء سياق وشعر على هذه القصص. مشاعر حقيقية عن اللحظة، لا مشاعر أُعيد خلقها في تلك اللحظة. فوق كلّ شيء، فكّرت في هذه المَشاهد قبل تصويرها، لكنّي لم أفكّر إطلاقاً في ما إذا كانت ستشتغل أم لا.

في الواقع، أحد المشهدين اللذين احتفظت بهما في الفيلم صُوِّر في محاولة وحيدة، ما يعطي فكرة عن روح الارتجال السائدة فيها، التي مَكّنت من العثور على نبرتها فوراً.

 

(*) هل ساعدك تدبير إعادة تمثيل هذه المقاطع أيضاً على تفادي سؤال التمثيل، الذي لا يسعنا إلّا أنْ نطرحه على أنفسنا، نظراً إلى صورتك الغنية والمهيبة كممثلة؟

هيام عبّاس:

نعم، لأنّها كانت أقلّ صحافية، أو أقلّ رسمية بمعنى ما. سمحت لنا بمزيد من الانفتاح والسهولة، وبإمكانية القيام بالأشياء في محاولة واحدة، كما أسلفَتْ لينا. أتاحت لنا الاستمتاع، وعدم المبالغة في التفكير في القصة، لأنّ الفكرة كانت أنْ نقدّم شهادة حقيقية وعاطفية عن مرورنا في الحياة. سهّل هذا على أخواتي أنْ يشاركن في هذه اللعبة. من هنا، جاء ردّ أختي، حين قالت لي: "كيف غادرتِ إلى هوليوود، وتركتني وراءك؟". لم ترغب أختي أبداً في أنْ تكون ممثلة، لكنّ ذلك سمح لنا بالسخرية من بعضنا البعض، للمضي قُدماً.

 

 

(*) تناولتِ سابقاً مسألة ندرة الأرشيف، بما في ذلك الأرشيف العائلي. كيف تعاملتما مع هذه المشكلة، خاصة الاختيار بين أشكال مختلفة (الصوَر والفيديو، وما إلى ذلك)، وطبيعة الأرشيفات (العائلية والتاريخية) التي أمكن الوصول إليها؟

هيام عبّاس: الأرشيف العائلي يختلف عن الأرشيف التاريخي لسببين: العائلي موجودٌ اليوم عند والد لينا، لأنّنا عندما كنّا نذهب إلى فلسطين، كان يحبّ أنْ يُصوّر. كأنّ إحساساً في داخله يدفعه إلى توثيق هذه الرحلات، لسببٍ ما. كنّا نتفرّج على الأفلام بعد كلّ رحلة، ونضعها في خزانة. رجعت لينا إلى الأرشيف لأنّها اقتنعت، في لحظة معينة، أنّه ينبغي الانطلاق من الأرشيف العائلي لتسرد قصص نساء العائلة. عادت، وبدأت تبحث عمّا يمكنها أنْ تستعمله لخدمة قصتها. عندما بدأت تركّب قطع اللغز، كانت لديها رغبة في أنْ تضع الأرشيف العائلي وقصة الأجيال الأربعة في الأرشيف العام. المشكلة أنّه ليس هناك مكان اليوم يُمكن أنْ تقصده لتبحث عن الأرشيف بشكل سهل. تطلّب الأمر منها 6 سنوات كاملة من البحث، إلى حدّ أنّه جرى توظيف شخص للبحث في الأرشيف التاريخي. نعرف أنّ جزءاً كبيراً من الأرشيف التاريخي الفلسطيني فُقِد في لبنان عام 1982، ومعظم ما يُمكن أنْ نجده مُتوفّرٌ في مؤسّسات سياسية، كتلك التابعة للانتداب البريطاني في زمنه، أو في ملكيّة عائلات كانت لها إمكانات مادية للتصوير آنذاك. الصعوبة عند لينا أنْ تجد وجوهاً لنساء وطفلات في هذا الأرشيف.

مهمّ اليوم أنْ يوجد الفيلم في الأرشيف الفلسطيني، حتى لو كان يحكي بشكل ذاتي عن قصص نسائية، من خلال التلاقح الإنساني والأخلاقي، والعودة إلى النكبة، باعتبارها أساس حضور جدّتي وأمي في هذا الفيلم، فيغدو توثيقاً مهمّاً للشأن والهمّ الفلسطينيين، عامة.

لينا سويلم: عندما بدأت التفكير في الفيلم، تمكّنت من الوصول إلى الأرشيفات الشخصية من تسعينيات القرن الماضي. لذلك، بدأت الكتابة انطلاقاً من هذه الصور. كتابة أسئلتي، وأيضاً تدوين ما اكتشفته من خلالها، والأحاسيس التي أعطتني إياها الكتابة عن هؤلاء النساء. أعدت اكتشاف النساء اللواتي نشأت معهنّ، لكنْ بعين البالِغة. كما اعتقدتُ فوراً أنّ هذه الأرشيفات كانت بمثابة كنز بالنسبة إليّ. كان لدي انطباع بمواصلة ما بدأه والدي، أي الحفاظ على آثار التاريخ الذي يُهدّده الاختفاء باستمرار.

كنت شاهدة أيضاً على تطوّر المناطق التي عرفناها، ولم يعد ممكناً الوصول إليها، والتي تطوّرت وتغيّرت بدورها. يمكنك رؤية الشيء نفسه في الوجوه التي تتطوّر وتتبدّل. بعد ذلك، كان مهمّاً لي أنْ أجد أرشيفاً تاريخياً لأروي قصة جدّتي وجدّة أمي، عندما كانتا صغيرتين. طول الوقت، كنت بحاجة إلى الصور، لأنّه في سياق التاريخ الفلسطيني، يجري إنكار تاريخنا وإسكاته، وتصبح كلّ صورة دليلاً على هذا الوجود المنفي بالتحديد.

حلمت حقاً بالعثور على هذه الصور، لكن من دون أنْ أعرف ما إذا كانت موجودة أم لا. عندما بدأت البحث، استغرق الأمر سنوات. كنت أتساءل أنّي أبحث وأبحث، لكنْ ربما عبثاً، إذْ لم أكن أعلم بإمكانية وجودها. أخيراً، عثرت على بعض الأشياء الاستثنائية: صُور من الثمانينيات، التقطتها الإيطالية مونيكا مورور في قرية والدتي في دير حنّا، مَكّنتني من أنْ أروي قصة والدتي عندما كانت صغيرة، وتندرج فوق صُور حقيقية من الثمانينيات.

يبدو الأمر كما لو أنّني، من خلال النظر إلى هذه الصور، كنت أحاول العثور على وجه أمي في كلّ هؤلاء الأطفال. هناك أيضاً مقاطع فيديو مُلتقطة من طرف الأمم المتحدة في مخيّمات اللاجئين، حيث أجد امرأة تُذكّرني بخالة أمي، وصورٌ بالأبيض والأسود، كانت مُهمّة لإظهار طبريا والمنفى، وكلّ الحياة الفلسطينية قبل الـ48. إنّها أيضاً مَحطّ طمس وإنكار، وكان مُهمّاً العثور على صُورها لأنّها استثنائية، ولأنّنا ننسى حقيقة وجودها.

الصور موجودة، يصعب الوصول إليها، ويعسر استخدامها. لكنّها ثمينة، لأنّها تغدو دليلاً ضدّ إنكار وجودنا. كما أنّها تسمح لهذه الشخصيات النسائية بالوجود في سياقها، ولي بالعثور على موطئ قدم في هذه الأماكن، حيث يتمّ محو ذاكرتهنّ بالكامل.

المساهمون