زكريا العمر وفرقة "تجلّي": ارتجال لا بد منه

زكريا العمر وفرقة "تجلّي": ارتجال لا بد منه

27 يونيو 2021
نحاول أن نصنع توليفات لحنية تحاكي ثقافات متعددة (العربي الجديد)
+ الخط -

في عام 2015، اجتمع موسيقيون من لبنان وسورية، ليؤسّسوا فرقةً هي "تجلّي صوفي". الموسيقيون هم زكريا العمر (غناء - عود)، وعبودة جطل (إيقاع)، وطارق بشاشة (كلارينيت)، وراغد نفّاع (تشيلو)، وربيع السيد أحمد (تشيللو).
مؤلفات عديدة حاكتها الفرقة بنغم فريد متجدّد، يكسر التوازنات الكلاسيكية للأغنية الصوفية، ويقلع معها المستمع في رحلة موسيقية مملوءةٍ بالوصال والمدامة. من هذه المؤلفات: "ألف" و"أرواح ما بعد منتصف الليل"، "كان"، "رشف الكؤوس" وغيرها من المقطوعات. التقت "العربي الجديد" مع المغنى والعازف السوري، زكريا العمر، عضو الفرقة، لتقترب أكثر من عوالم هذه التجربة ومساراتها. 


- يبدو أننا أمام ظاهرة اجتماعية تتميز بانفتاح فئة كبيرة من الشباب حول العالم على الأعمال الموسيقية والغنائية التي تنهل من الأدبيات الصوفية، تذوقًا واشتغالًا. هل سبب ذلك يعود لتراكم محددات ثقافية وفنية أم دينية؟
* لا شك أن معظم الأعمال الموسيقية الدارجة، أصبحت تمتاز بطابع الصخب. وهي أعمال تجذب فئة الشباب بشكل يناسب أهواءهم وعواطفهم. ولكن، في المقابل، هناك نسبة كبيرة من الناس أخذت تبحث عن أشكال موسيقية مختلفة، تنتشلهم من حالة الموسيقى الصاخبة، وتقربهم أكثر من ذواتهم. بالرغم أن عملية التذوق مرتبطة إلى حدٍ ما بالبيئة الموسيقية المحيطة بالمستمع، غير أن فعل الموسيقى بحد ذاته، يقترب أكثر من الرغبة الشخصية والحسية للمستمع، وهو ما يدفعني إلى القول إن توجه الشباب نحو الأعمال الصوفية، مرتبط بقدر كبير بذوق المتلقي الخاص والشخصي، ليس بالدين. في لبنان، قد يكون التوجه نحو الأعمال الصاخبة أكثر رغبة بين فئة الشباب، وقد لاحظنا، عند المستمع اللبناني، حجم الاستغراب الذي اعتراه حين سمع أعمالنا لأول مرة. إلا أنه ما لبث أن بدء يستسيغ هذا النمط. شعروا بغرابته وجماليته وجاذبيته في آن معًا. 
أريد الإشارة إلى أن هناك اختلافاً في سبب التلقي بين مستمع وآخر. نتلقى موسيقى عن الحب بسبب حالة الغرام مع الشريك. آخر يتلقاها في حب الأنبياء، أو بسبب الشعور بفقدان عزيز، وغيرها من أشكال المشاعر الإنسانية. بينما في الشعر الصوفي، لا يحدد الشاعر شكل الشخص الذي يتغزّل به، أو يخاطبه. وهذا دليل على أن حالة التذوق مرتبطة بالشخص نفسه، وبالعوامل التي شحنته لتلقي هذه الموسيقى.

 

 

- عندما نقول موسيقى صوفية معاصرة، لا بد لنا من الغوص في عملية التأليف الموسيقي الخاص بالفرقة، كتحديد جنس المقامات الشرقية والتراكيب الموسيقية المناسبة لخلق مكونات متجانسة. هل تشرح لنا طبيعة هذه المكونات التي تجعل هذا التمازج أمرًا ناجحًا يحاكي روح العصر، ومرغوبًا لدى فئة الشباب.
* في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، لكل مرحلة جمهورها. مثلًا، مرحلة أم كلثوم تختلف عن مرحلة عبد الحليم حافظ، والأخيرة بدورها تختلف عن المرحلة التي بدأت تنتشر فيها الموسيقى النوبية، والتي أدرجت للمشرق العربي الألحان الغربية، فشهدت إقبالًا واسعًا بالتزامن مع انتشار المسرح الرحباني. وبالتالي تؤدي الفرقة دورها على هذا النحو، وإن كان في غير الإمكان الرجوع إلى تلك المراحل السابقة، غير أن النمط الموسيقي الذي نقدمه، يمتاز بتراكيب خاصة تجعل منه مناسبًا لمختلف الأذواق، بما في ذلك الأجيال السابقة وليس فئة الشباب فحسب.
تقترن عملية بناء ومزج الألحان بشكل القصيدة ومعانيها، ومع ذلك نراعي الفئة المستهدفة، سواء شبابًا أو كبارًا. لا توجد تركيبة محددة نتبعها. مثل مقطوعة "رشف الكؤوس". نبدأ باختيار المقام المناسب للمقطوعة مع تطعيم يتلاءم وروح القصيدة وعاطفتها، ما يمنحنا مركبًا موسيقيًا يتماهى مع ذوق المتلقي. في مكان آخر، نحاول صنع توليفات لحنية تحاكي ثقافات متعددة، كالألحان التركية والأندلسية، وغيرها. هذه التوليفات تعنينا كثيرًا. فهي تطبع الموسيقى الصوفية بصفة العالمية، وهو أمر هام جدًا. فالصوفية اقترنت بثقافات متعددة، وكل ثقافة تعاملت معها بالرؤية التي تناسبها.

 


- هذه التوليفة المميزة والبارزة في مؤلفات الفرقة الخاصة، طبعتها في المقام الأول، مجموعة عناصر متجانسة، تشكل كتلة واحدة، مقامًا ولحنًا وقصيدةً، كما أشرتم أنفًا. ولكن، حبذا لو تحدثنا عما إذا كان هناك تداخل أو ارتباط للموسيقى الصوفية الكلاسيكية بهذه التوليفة.
* في العمل المعاصر، يجب عدم التطرق للشكل الصوفي الكلاسيكي. ولكن قليلًا ما نتطرق له في حالات معينة كالارتجال. أو نجده في جمل موسيقية متداخلة، تكون روحها كلاسيكية. هناك مقامات شرقية تساهم بشكل كبير بإضفاء الطابع المعاصر، مثل مقام النهاوند والبيات والكرد والعجم. هذه المقامات تساعد على الانتقال كمستمع، من مكان إلى آخر.
لا بد من ذكر نقطة في غاية الأهمية. نحن في رحلة. وإن لم نكن كمؤدين نشعر بأننا في حالة طيران، يستحيل علينا دفع الجمهور وجذبه للانخراط في هذه الرحلة، التي تقذف بنا إلى أمكنة روحانية عليا لا يحدها نمط كلاسيكي. جل ما يهمنا أن يتلقى المستمع الموسيقى بطريقة صحيحة.


- في الموسيقى الصوفية، هناك مرجعيات كثيرة مرتبطة بالطرق الصوفية المنتشرة حول العالم. والتي تقدّر بالمئات. هل من طريقة محددة تستوحي الفرقة مقطوعاتها منها؟
* نعم يوجد. معظم الطرق الصوفية تعتمد أنماطًا معينة مرتبطة بالدين، كالحضرة والذكر الصوفي. نأخذ منها ما نراه مميزًا وآسرًا لنستحضر منها أعمالنا. بالطبع لكل طريقة أسلوبها الخاص، مثل النقشبندية والرفاعية. نستوحي منها الإيقاع مثلًا. إذ لهذه الموسيقى وقع كبير على المتلقي. تجذبه وتدفعه للتفاعل معها، خاصة إذا كان المستمع يستمع إلينا لأول مرة. غالبًا ما نستوحي من طرق شهيرة، لتكون أسهل على المتلقي. علمًا أن الصوفية ليست موسيقى معقدة. فهي تعتمد على مبدأ التكرار. وبين الجملة الموسيقية والأخرى، هناك ارتجال لا بد منه، ليضيف نكهة على الجمل الموسيقية الأساسية.

 


- قد لاحظنا بالفعل، خلال حفلكم الأخير، الذي أقيم في بيروت على خشبة مسرح "مترو المدينة" قبل مدة قصيرة، تقديمكم مقطوعات ارتجالية أتحتم فيها المجال لمشاركة الجمهور. هل سبب ذلك يعود إلى مقاربات فنية تختبرها الفرقة؟ 
* نشدو في عملية الارتجال، حتى لا يشعر المستمع بالملل، هذا أولًا. ومن ثم، في العادة، نسعى إلى التجديد حتى في المقطوعة نفسها. فالارتجال يعكس درجة الخبرة التي يملكها المؤدي. هذا ثانيًا. أما ثالثًا، فمن المهم لنا أن نعرف إلى أي مدى قد ينسجم المستمع معنا ومع الموسيقى التي نقدمها، وإلى أية درجة سيصل إليها برفقتنا. من المهم جدًا أن يمتلك المؤدي قدرة تؤهله على التقاط مشاعر المستمع وردة فعله ليتفاعل معها ويترجمها موسيقيًا. فالآلة جسر بين المؤدي والمستمع.


- هناك مقطوعتان من مؤلفاتكم الخاصة، واحدة تحمل عنوان "ألف"، والثانية "باء". ما الدلالات اللفظية والموسيقية المقصود بها؟
طبعًا ترتبط المقطوعتان بالأحرف الأبجدية، كما تشير العناوين، وكانت الغاية منها خلق سلسلة مؤلفات موسيقية مسماة وفق الترتيب الأبجدي للأحرف العربية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "حرف" كانت التسمية السابقة للفرقة، في الفترة الأولى التي أطلقنا فيها مشروعنا الموسيقي، ثم اتخذنا من العنوان الحالي اسمًا أساسيًا لها. حينذاك، كنا نعمل على تقديم مقطوعات ارتجالية. لم نكن قد بدأنا بصنع مؤلفات خاصة بنا، وقد نشأت المقطوعة "ألف" في تلك الفترة تحديدًا. كنا على خشبة المسرح. نعزف مقطوعة بشكل ارتجالي، يرافقها غناء مقطع من قصيدة "مزجت روحي" للحلاج. كلمات القصيدة وما تحمله من معانٍ ودلالات، دفعتنا إلى طرح هذه المقطوعة بعدما لاحظنا التكامل بينها وبين الموسيقى التي عزفت على خشبة المسرح. المقطوعة "باء" طرحت هي الأخرى على خشبة المسرح، بالطريقة ذاتها التي ابتكرت فيها مقطوعة "ألف"، ولكن من دون كلمات. ثم عملت لاحقا على تركيب القصيدة المناسبة لها. فكانت قصيدة "والله ما طلعت شمس ولا غربت" للحلاج أيضًا. وقد لاقت هذه المعزوفة رواجًا وتفاعلًا كبيرين. إذ تميزت ببساطتها من جهة اللحن ومن جهة الكلمات. فالمستمع سيحفظها بمجرد أن يسمعها للمرة الأولى.

 


- يعزز التأثير العاطفي لتجربة الموسيقى الحية، سمات تفاعلية بين المستمع والمؤدي، ما يخلق استجابات حسية عالية تفرضها أجواء المسرح عامةً. هل تركز الموسيقى الصوفية على هذه الكيمياء، باعتبار أنها موسيقى روحانية، تتمتع بخصائص تعبيرية تعكس اختلاجات الروح في المقام الأول، علمًا أن باقي الأنماط الموسيقية قد يكون لها درجات متوازية التأثير على الجمهور؟ أم أن هذا التأثير سيبطل أو يضعف في حالة الموسيقى المسجلة.
* الارتباط موسيقيًا بين الجمهور والمؤدي مهم جدًا. المؤدي لن يرتقي للحالة المنشودة إذا لم يكن على خشبة المسرح. لنفترض أن هناك أغنية أو مقطوعة ما استمع إليها، وتسبب عامل ما أو دخيل على سبيل المثال، ببتر حالة الاندماج التي أنا في صددها. ما الذي سأشعر به؟ هي خلوة لن تستمتع بها مثلما يحصل في حالة الموسيقى الحية. على عكس الموسيقى المسجّلة؛ فالأخيرة مقيدة أيضًا بأمور التسجيل وضبط العلامات والجمل الموسيقية، بينما يختلف الأمر عندما يكون هناك مؤد ومستمع في فضاء مسرحي واحد، وتفاعل واحد. يطلب منّا أحيانًا، تقديم حفلات أونلاين على منصات التواصل الاجتماعي، فيسبوك مثلًا. وهذا أمر لا نحبّذه بتاتًا. فكما قلت سابقًا، نسعى دائمًا عند طرح كل مقطوعة موسيقية في حفلاتنا، إلى إلباسها ثوبًا موسيقيًا مختلفًا عن ثوبها السابق، بحيث لا تدفع المستمع إلى الشعور بالملل، وهذا جوهر الاختلاف بين الموسيقى الحية والمسجّلة.


- ما هي رسالة الفرقة؟
* غايتنا منح الناس موسيقى مختلفة تمامًا. موسيقى صوفية جديدة بمفاهيم جديدة، لا ترتبط فقط بالدين كما هو متعارف عليها. فالموسيقى الصوفية أوسع مما هي عليه بكثير. نمط واسع الأفق، لا يحدّه شيء.

المساهمون