ذكريات شخصية مع المخرج علي عبد الخالق

ذكريات شخصية مع المخرج علي عبد الخالق

03 سبتمبر 2022
أخرج علي عبد الخالق 39 فيلماً روائياً (عمرو مراغي/فرانس برس)
+ الخط -

في مطلع يوليو/تموز الماضي، قرأت نبأ عبر "فيسبوك" عن إصابة المخرج السينمائي المصري علي عبد الخالق بمرض عضال، مع دعوة للقراء للدعاء له بالشفاء. اتصلت به مستفسراً، فشرح لي آلامه من دون أن يحدّد المرض، لكنني من الأعراض أدركتُ ووجلت وكتمت انفعالي، إلى أن ختم كلامه بالقول: "يا صديقي العزيز الغالي، أنا في بداية رحلة العلاج الطويلة، ادع لي".

منذ نحو ثلاثة أسابيع، اتصلت به مجدداً، فأخبرني أنه في قسم العناية المركزة في مستشفى المعادي، وتوسّع في شرح تفاصيل المرض؛ إنه السرطان اللعين. حاولت أن أخفف عنه الألم، ورجوت الله أن يهبه الشفاء العاجل والتام، فقال لي: "لم يعد لي سوى رحمة الله".

وشغلني عن الاتصال به سلسلة أمراض صغيرة انتابتني على التوالي. وما إن بدأت أتعافى حتى بلغني أمس الجمعة أن صديقي العزيز أسلم الروح. أوجعني رحيلك يا علي.

تعود صداقتنا إلى ستين عاماً بالضبط، إلى صيف 1962. أول لقاء في القاعة الرئيسة في المعهد العالي للسينما في القاهرة، على لوحة عُلقت أسماء الطلبة الذين قبلوا للدراسة. فرحت بوجود اسمي بين المقبولين لدراسة الإخراج، ولمحت اسماً لفت نظري: علي عبد الخالق صالح. ثمة لواء في الشرطة متقاعد احترف التمثيل هو عبد الخالق صالح. في أول أيام الدراسة تعارفنا، وأخبرني أنه فعلاً ابن الممثل المعروف.

بسرعة نشأت صداقة مع علي عبد الخالق، وزميل آخر في قسم الإخراج هو السيناريست الشهير لاحقاً محمود أبو زيد. صرنا ثلاثياً لا نفترق، أثناء الدراسة وبعدها. كنت قادماً من الإسكندرية أقيم في غرفة مفروشة لدى عائلة لبنانية، لكنني قلما اضطررت للمبيت هناك، إذ كنت أسهر يومياً إلى طلوع الفجر، ليلة في بيت أهل علي عبد الخالق، وليلة في بيت أهل محمود أبو زيد. ننام ساعتين أو ثلاثاً، ونعجل في الذهاب من مصر الجديدة إلى حي الهرم حيث المعهد. وكان في دفعتنا زميل آخر درس الإخراج هو محسن زايد، وكما محمود أبو زيد وأنا احترف الكتابة. وحده علي عبد الخالق أصرّ على خوض تجربة الإخراج، وكان له ما أراد. وإلى حلقة الثلاثي علي ومحمود وفارس، انضم زميل من قسم التصوير هو شوقي علي محمد، الذي أصبح لاحقاً عميد المعهد لسنوات.

ظلت طقوس اللقاءات اليومية طول سنوات الدراسة الأربع، وسنة التدريب بعد التخرج. انتقلتُ بعدها إلى بيروت، وصرت ألتقي بعلي ومحمود وشوقي لدى زياراتي إلى القاهرة. ومنذ نحو 15 سنة لم أزر القاهرة، وتكاسلنا عن التواصل من دون سبب. مجرد كسل. كنت أتبلغ أخبار علي عبد الخالق من محمود أبو زيد، وبصفة خاصة من شوقي علي محمد، إلى أن انتقلا إلى رحمة الله.

نجوم وفن
التحديثات الحية

منذ سنة ونصف السنة قررت معاودة الاتصال بعلي عبد الخالق. وجدت اسمه مكتوباً في "فيسبوك" على غير الطريقة المألوفة في كتابة اسم علي. ظهر اسمه بالأحرف اللاتينية Aly. المهم تواصلنا وكانت سعادتنا كبيرة. سألته عن أخيه الأكبر مهيب، رفيق السهرات حتى الفجر، فأخبرني أنه توفي قبل 12 سنة. طلبت لروحه الرحمة. وكنت على وشك الانتهاء من كتابة مؤلفي الأخير "الأسراب الشامية في السماء المصرية" (دار ميريت، القاهرة)، فوعدت أن أوجّه لذكراه تحية. وبالفعل، خصصت الصفحة الأخيرة من الكتاب له، ذكرت فيها: "حين بدأت تحرير الكتاب، ألحّ على خاطري مهيب عبد الخالق صالح، وقد عرفته أيام دراستي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة من طريق زميلي، أخيه المخرج علي عبد الخالق. كان مهيب مثقفاً واسع الاطلاع على خصائص بلاد الشام التاريخية والاجتماعية والأدبية، وكان موضوع الشوام في مصر أثيراً لديه، تناقشنا بشأنه كثيراً. رحمه الله". وحين صدر الكتاب اتصل بي علي عبد الخالق مهنئاً، وشكرني على ما كتبته عن أخيه. فهنأته بدوري على ملصق شاهدته في "فيسبوك"، عبارة عن كولاج متقن من ملصقات الأفلام التي أخرجها، فأخبرني أنه من تصميم ابنته وتنفيذها.

وتحدثنا عن أفلامه. قلت له إني معجب بالعديد منها، لكن الأربعة الأثيرة لدي هي التي كتبها محمود أبو زيد: "العار"، و"الكيف"، و"جري الوحوش"، و"البيضة والحجر". ليس بسبب علاقتي الأخوية مع كليهما، محمود وهو، وإنما لأنها أفلام جميلة وحيوية ومتقنة. وقال لي: "لك أن تتصور سعادتي البالغة وأنا أتعاون مع رفيق العمر محمود. السعادة التي كبرت بعد نجاح الأفلام".

كان نجاح الأفلام مصدر غبطة لعلي عبد الخالق. لم يكن يحفل بالنخبة، بل كان يفرح عندما يعبر الجمهور الغفير عن إعجابه بأفلامه. قال لي: "أنا أخرج أفلامي للناس، وليس لكلمات في صفحات الجرائد". طبعاً إذا حظي الفيلم بإعجاب النقاد أيضاً، فزيادة الخير خير. من أيام الدراسة، أخبرني علي عبد الخالق أن مثله الأعلى هو المخرج عز الدين ذو الفقار، وكان معجباً به أيّما إعجاب. كما كان معجباً ببعض أفلام المخرج هنري بركات، خصوصاً "في بيتنا رجل". وظل علي عبد الخالق معجباً بأفلام عز الدين ذو الفقار، حتى بعدما استراح وتوقف عن الإخراج. في أحاديثنا الأخيرة كان يصف لي مشاهد من "نهر الحب" و"رد قلبي" و"بين الأطلال"، وهو ما زال متذكراً تفاصيل إخراج لقطاتها. قلت له إن "نهر الحب" هو الأثير عندي، فذكّرني بفيلم رابع هو "امرأة على الطريق"، فهتفت "نعم، فيلم جميل".

رضى الجمهور لا يعني أن علي عبد الخالق تنازل لأجل الحصول عليه. فبعض أفلامه حصدت الجوائز في المهرجانات. فيلمه الروائي الأول "أغنية على الممر" نال الجائزة الثانية في "مهرجان كارلوفي فاري" في تشيكيا، وجائزة "مهرجان طشقند". فيلم "السادة المرتشون" نال جائزة "مهرجان الإسكندرية السينمائي". حتى أفلامه التسجيلية، وهي التي بدأ بها مسيرته المهنية، حصدت الجوائز أيضاً. فيلم "أنشودة الوداع" نال الجائزة الثانية في "مهرجان لايبتزغ السينمائي الدولي"، وفيلم "السويس مدينتي" حظي بالجائزة الأولى في "مهرجان وزارة الثقافة للأفلام التسجيلية".

أخرج علي عبد الخالق 39 فيلماً روائياً، شارك في بطولتها أبرز نجوم السينما المصرية. كما أخرج عدة مسلسلات تلفزيونية. لم يكن مجرد مخرج يحترم مهنته ويحبّها فحسب، بل كان في الوقت نفسه إنساناً خلوقاً، شديد التهذيب، وفيّاً لأصدقائه، ظريفاً متذوقاً للنكتة، مبتكراً بعضا منها. كنا على وفاق تام، أثناء الدراسة وبعدها. لم نختلف سوى في أمر واحد؛ كان يشجّع "نادي الزمالك" لكرة القدم، وكنتُ من مشجعي "الأهلي".

المساهمون