حياة الورق: يوميات المشرّدين في إسطنبول

حياة الورق: يوميات المشرّدين في إسطنبول

21 مارس 2021
ينجح الفيلم في خلق صراع من الناحية النفسية والعاطفية في الربع الأخير منه (فيسبوك)
+ الخط -

يسلط الفيلم التركي "حياة الورق" Paper Lives الذي بدأ عرضه قبل أيام على شبكة "نتفليكس"، الضوء على حياة المشردين، في حي صغير من أحياء مدينة إسطنبول التركية. قصة "محمد"، بطل الفيلم، ومجموعة الشباب والأطفال الذين يحيطون به، تكشف لنا عن مشكلة اجتماعية شائعة في تركيا ومعظم بلدان العالم.

تركز الحكاية على مصائر الأطفال المهملين الذين عانوا من مشاكل أسرية وعائلية، والتي انعكست سلبًا على حياتهم، ورمت بهم إلى زواريب الأحياء الفقيرة في إسطنبول، مع تغييب متعمّد لدور البلديات والمنظمات الحكومية والإنسانية المعنية بمتابعة مثل هذه القضايا الداخلية. فالتزمت بتصوير حالة رئيسية محورية يدور حولها بعض التفاصيل التي تصب في المشهد الإنساني العام للفيلم.

في لقطة واحدة افتتاحية تنتقل الكاميرا بين عالمين. تعريف مباشر وسلس حول اتجاه الفيلم وعناصره السردية، بعد أن كشفت لنا شكل التفاوت الطبقي. فهذا التوجيه القسري غايته تعرية المشاهد من حياة البذخ والترف منذ البداية، وربطه بصريًا وعاطفيًا مع حياة الفقر والتشرد طوال باقي أجزاء الشريط. يقطن "محمد" في أحد الأحياء البسيطة في العاصمة إسطنبول.

نتعرف على تفاصيل حياته ويومياته وعمله كبائع ورق. إذْ يملك محلًا بجوار منزله يدير من خلاله عمليات التجميع والفرز مع مجموعة من الشباب صغار السن الذين يعملون لديه. العلاقة الوظيفية بين "محمد" وموظفيه تحمل في طياتها بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا تستهلكها تصورات المخرج كان أولكاي بتفاعل بصري لا تبرر بساطة العلاقة بين الموظفين والبطل بقدر ما تبسط علاقة الأحداث بالمكان. جميع الشخصيات الثانوية تتناوب على دفع الغاية الأخلاقية والإنسانية نحو تسيّد الحكاية بصريًا، دونما التشديد على الأداء والحبكة اللتين صورتا بشكل هامشي، تقيدت معهما مبررات نجاح أي فيلم متكامل العناصر. يظهر الطفل "علي" في مكان العمل خائفًا مختبئًا من حكاية مؤجلة هي التي تدفع بالأحداث، وتنقل لنا جراح البطل النفسية بعد الجسدية، بعدما علمنا أنه بحاجة إلى عملية زرع كلية يحصد لأجلها ما توفر من نقود للعلاج من عمله.

قضية إنسانية بحتة لا يسمح لنا بمناقشة تفاصيلها أو تخيلها

ارتباط البطل بالطفل "علي" جاء مشكوكًا بأمره، وهو ما يدفع للتماهي مع الخاتمة وفضحها مبكرًا. سيما حين تتناقل بعض الشخصيات ماضيها بحوار مباشر وفج بشكل يستأثر العاطفة لتعويم القصة أخلاقيًا واستجرار العاطفة على حساب الغاية الفنية. دور الموسيقى اللافت سواء الشعبية منها أو الغربية، إذْ تؤثران على مناخ القضية، ولكن في طياتها مؤازرة عاطفية مضافة لرسالة الفيلم. أطفال حرموا من ذويهم مثلما حرم "علي" من أمه الذي كان همه البحث عنها بعد أن دفعت به الأخيرة للهروب من بطش زوج أمه. ثنائي مثليي الجنس يلبي ظهورهم دعوة خجولة لخرطهم في السياق السينمائي دون خلق حالة درامية أو أزمة أو حكاية تساهم في تطوير أو تعقيد الأحداث. فالمعالجة السينمائية الكاملة لا تخلو من ركاكةٍ وتجويفٍ يفضحان باقي تفاصيل القصة. إذ لا تفسير منطقيا لهروب الطفل وتشرده.

حكايات الشباب العاملين لدى "محمد" فارغة من أية معطيات وخلفيات، سوى لربط الصيغة البصرية بالتكثيف العاطفي الملائم لتطور حياة البطل واهتمامه بهم. فهي محاولة لحصر قضية الفقر والتشرد بشكل تفاعلي يصور أخلاق البطل وعاطفته الجياشة تجاه المحيطين به. فنراه أبًا لهم وحاميًا ومدافعًا ثم حكيمًا، وهي صورة بلغت من اللطافة والدفء مبلغًا إنسانيًا عاليًا يحسب للعمل وللقضية المتبناة، ولو على حساب المعالجة التلقائية والسليمة التي يفتقر إليها الفيلم. ينجح الفيلم في خلق صراع من الناحية النفسية والعاطفية في الربع الأخير منه، ولكن أن نقول بوجود عقدة وشبكة أحداث ستتلاقى أخيرًا لصنع الأزمة ومن ثم حلها هو أمر بعيد كما قلنا سابقًا. ومنه نرى أن أزمة وحيدة ظهرت في النهاية بعد أن كشفت نفسها على اعتبار أن البطل مصاب بالذهان.

وهي حالة تبرر كامل تصرفات البطل مع الطفل "علي" أو بالأصح مع نفسه. فبطلنا استحضر طفولته من خلال شخصية الطفل "علي" ليفسر النهاية على أنها أزمة نفسية دفاعية متغلغلة في عقل "محمد"، ترفض واقع التشرد القاسي الذي فرض عليه منذ صغره. لذا عبّرت طفولته المستحضرة عن حاجة إنسانية وعاطفية أمام غياب أسرته أو على الأقل والدته بشكل غير مبرر. إذ إن غياب والدة البطل إلا عن مخيلته، لا تسمح بتصديق الوقائع التي عايشها محمد منذ طفولته حتى مقتبل عمره. فالأسئلة تفرض نفسها حتى على مخيلة عقل المشاهد البسيط. أين كانت والدته طوال هذه المدة؟ أين والده البيولوجي، لماذا لا نعرف عنه شيئاً؟ أين أهالي بقية الشخصيات وما الخلفية الاجتماعية التي قدموا منها؟

إذن هي قضية إنسانية بحتة لا يسمح لنا بمناقشة تفاصيلها أو تخيلها. مقرونة بعملية بصرية ودافع عاطفي ملتهب لا حيثيات أو سياقات اجتماعية تفسر بشكل منطقي رؤية العمل وهدفه. لذا كان أولى فنيًا وإنتاجيًا، اختزال هذا الشريط الطويل إلى فيلم قصير يحيط بهذه القضية، تستوفي عناصره الشروط المطلوبة لنقل الرسالة دون استهلاكٍ لكل هذه المساحة، وتحويل ما عجز الفيلم إلى معالجة سينمائية مقتضبة وناجحة لا تستدعي كادرًا كبيرًا ومناظر وشخصيات عديدة لا دور سرديا أو قصصيا لها.

المساهمون