حارس الجنوب: حبكة متوترة تُبرز الشخصيات بشكلٍ أفضل

حارس الجنوب: حبكة متوترة تُبرز الشخصيات بشكلٍ أفضل

30 أكتوبر 2022
يُركّز "حارس الجنوب" في حبكة تحفل بالتوتّر على شخصياته (ليونيل هاهن/ Getty)
+ الخط -

هناك أفلام توصف، بالفرنسية، بأنّها "صغيرة". أحياناً، تكون الأولى لأصحابها، مع ممثلين غير معروفين كثيراً أو أبداً، وبميزانية متواضعة، ودعاية شبه معدومة، وجمهور قليل، وإيرادات لا تُذكر. أفلامٌ لا تبقى في دور العرض أكثر من أسبوعين، أو شهر في أحسن الأحوال. لذلك، لا يُتاح لها الانتفاع مما يُطلق عليه في فرنسا "من الفمّ إلى الأُذن"، أيْ أنْ يشاهدها أحدهم وينصح مَن حوله بها، فتنتشر شهرتها، لا سيما لدى غير المُعتادين على الذهاب بانتظامٍ إلى صالات السينما، ولتكبر فرصها في النجاح ببطءٍ وثبات.

لكنْ، في أيام ما بعد كورونا، يُقضَى على فرص أفلامٍ عدّة من هذا النوع. لا وقت للانتظار، ولا وقت لخسارات أكبر. الإيرادات تُحدّد مدّة العرض، ليكون الخاسر الأكبر هذا "الفيلم الصغير"، الذي يُكتَشف صدفةً أيضاً، وربما بحكم واجبٍ مهني، فيُقبِل عليه مُهتمٌّ، مع فكرة مسبقة أحياناً بأنّه سيكون فيلماً عادياً آخر، من تلك الأفلام الفرنسية التي تملأ سوق العرض، والتي تكون مشاهدتها مصدر متعة، لكنّ أثرها يذهب بمجرد الانتهاء منها.

فيلمٌ صغير كـ"حارس الجنوب" (2022)، أول روائي طويل للفرنسي ماتيو جيرو، يُنسي شيئاً فشيئاً كلَّ توقّع مسبق. معه، تتحوّل اللامبالاة الأوليّة إلى اهتمام مُركّز. فيلمٌ طموح في أبعاده، مُعقّد في حبكته، آسر في أجوائه، وفي هذا الصمت المؤثّر، والنظرات الموحية لشخصيات تعيش عزلة داخلية، وتبحث عن مكان لها في عالمٍ ينبذها. فيلمٌ عن الحرب من دون حرب، وعن نفسيات مُحطّمة، ومشقّات رجوع إلى حياة مدنية طبيعية لجنود عائدين من جحيم المعارك في الخارج. موضوعٌ مُفضَّل لأفلامٍ أميركية كثيرة، يُعلن عن وجوده اليوم في السينما الفرنسية، مع أجواء ليست بعيدة عن سينما ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته الأميركية، لكنْ مع كتابة سينمائية تجعل الفيلم فرنسياً جداً في مقاربته، كما يقول مخرجه، مع رغبةٍ في دمج الأدب بالسينما، وهذا الحبّ للّغة بأشكالها كلّها، فـ"حارس الجنوب" يبدأ باقتباسٍ من الأديب الفرنسي أنطوان دو سانت أكزوبيري، وينتهي بقراءة رسالة بلغةٍ شاعرية، يتلوها بطله الرئيسي.

"حارس الجنوب" فيلمٌ ذاتيّ في التعامل مع الجنون، في بعده العاطفي، وتساؤلاته الوجودية، التي تكون صدى للحياة الشخصية لصانعه، وانجذابه إلى شرح هشاشة الإنسان، كونه بطلاً ومُعاكساً للبطل في آن واحد. فيلمٌ مُتعدّد الأنواع، ينتمي إلى النوع الاجتماعي النفسي، مع شيءٍ من الرومانسية. يتعمّق في شخصياته المركّبة، ويروي استحالة العودة إلى الحياة الطبيعية لمثل هؤلاء. كما ينتمي إلى النوع البوليسي، بمتابعته محاولات أبطاله الثلاثة التكهّن بطبيعة مهمّة عسكرية، وكشف خباياها غير المُعلنة، لأنها لم تكن على هذه النزاهة والشفافية التي توقّعها شبابٌ مُجنّدون بسطاء.

مِنْ هؤلاء، كريستيان (الفرنسي الكندي نيلز شنايدر)، جندي عائد من أفغانستان، يسعى إلى عيش حياة طبيعية في فرنسا، رغم مشاكل يعانيها، ويكافح بإخلاصٍ لاستئناف حياة مدنية، كلّ ما فيها يدفعه في اتجاه معاكس مظلم. بؤس الأمكنة في ضواحٍ مُهمّشة، ومشقّة الحصول على عمل، وإقبالٌ على الكحول، وبحثٌ عن انتماء. كريستيان هو ذاك الطفل المهجور من عائلته، الذي ظلّ يأمل في الحصول على عائلة تهبه العاطفة، ويتلمّس وجودها أحياناً في أسرة عربية الأصول من الضواحي، في وحدته العسكرية، ومع إخوة السلاح، وفي قصة حبّ معقّدة مع لوسي (إنديا هير)، ممرّضة صديقه. بعد مهمّة عسكرية في أفغانستان، لم يبقَ له من رفاقه "الإخوة" على قيد الحياة سوى منير (سفيان خَمَّس)، صديق الطفولة المُصاب جسدياً، وهنري (تُوماس دالوز) المُصاب نفسياً، والمُحتجز في مشفى للاضطرابات النفسية.

ثلاث شخصيات منكسرة واجهت الموت، تعود أكثر نضجاً من هذه التجربة، وكذلك أكثر هشاشة. كريستيان، غير المُصاب ظاهرياً بشيءٍ، يُلزم نفسه بإنقاذ أخويه المتورّطين في عملية قذرة لتجارة الأفيون بين فرنسا وأفغانستان. يتعيّن عليه مساعدتهما، لتصفية حسابات متعلّقة بها. في مساعيه إلى كشف ملابسات تورّطهما، يكتشف تدريجياً أنّ المهمة العسكرية في أفغانستان، التي عادا منها وحدهما بعد مقتل باقي عناصر الوحدة، لم تكن سوى عملية غامضة، أهدافها سرّية، ولها علاقة بقائدهم. هل كان غرضها الوحيد تهريب الأفيون، أم أنّ هناك أسراراً تُخفيها عنهم القيادة، ووقعوا هم ضحيتها؟
يُبقي الفيلم هذا التساؤل المصيري، بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة، مُلتبساً. إنّه، كالحقيقة، مُشوّش وغير مفهوم، وكلّ ما يستنتجه من فيديو عن العملية صُوَر مهزوزة وأصوات متقطعة، ووجود جوانب مظلمة تتمثّل في فظائع مرتكبة هناك، في ممارسة الخداع والاستغلال من قادة تجاه شخصيات لا خبرة لها.

يُركّز "حارس الجنوب"، في حبكة تحفل بالتوتّر، على شخصياته، فتبرزُ على نحو أفضل. الثلاثة شخصيات حميمية ضعيفة، أوجاعها خارجية جسدية، كتلك التي يعانيها منير، أو نفسية واضحة كهنري، الذي يقترب من الجنون، أو نفسية غائرة، تطفو ظواهرها على السطح لتتبدّى في عنفٍ طارئ، أو تصرّف أخرق، كما في حالة كريستيان. شخصيات تقف على الحدود بين الضعف والقوة، وتعطي لنفسها الحرية بالتنقل بينهما حسبما تُجبرها الظروف.

التجاور لدى الشخصيات بين الهشاشة والقوة، ومعها العنف، يجعل التعاطف معها بديهياً، لا سيما أنّ أداء كلّ ممثل دقيقٌ ومؤثّر في كلّ حالاته. شخصيات مُعرّضة في كلّ لحظة لأنْ تنقلب، بل تنفلت في ردود أفعالها، ما يَحْرِفُ السرد إلى نواح غير متوقّعة، تضيف إليه من القوة والفعالية الكثير.

كريستيان أكثر الشخصيات تعقيداً وصمتاً. يتحوّل فجأة، بملامحه الوسيمة التي تعكس مودّة وتعاطفاً وشيئاً من الرقّة، إلى إنسان فيه قسوة غير مبرّرة لمن هو أمامه، تكمن أسبابها في جروح طفولة أليمة. معه، يحاول الفيلم إيجاد ثغرة لينفذ منها أملٌ ما، رغم الهزائم، وتبدو لوسي، التي وُضعَت في طريقه المتعثّر، كأنّها تعبيرٌ عن رغبته في البحث عن حياة طبيعية، عبر مشاريع وآمال، يمكن أنْ يجدها من خلالها.

في اشتغال بصري لافت للانتباه، يكمن طموح "حارس الجنوب" في التعبير عن الإنسان، وعن تساؤلات وجودية معنيّ بها، وعن خياراته وموقعه في الحياة، وحاجته إلى أنْ يُحِبّ ويُحَبّ، وفي الاهتمام بشخصيات تعاني حروباً داخلية، تفرض عليها الظروفُ عيشَ الحياة كمعركةٍ يجب الانتصار فيها. لكنّها في النهاية تنهزم، رغم كل نيّاتها الحسنة.

المساهمون