جديد م. نايت شامالان: تشويقٌ وإيقاع متوتّر ومزيج أنواعٍ

جديد م. نايت شامالان: تشويقٌ وإيقاع متوتّر ومزيج أنواعٍ

16 اغسطس 2021
م. نايت شامالان: لمسة ظهور في أدوار ثانوية في أفلامه (ديا ديباسوبِل/ Getty)
+ الخط -

في أحد أروع مشاهد "إنترستيلار" (2014) لكريستوفر نولان، وأكثرها ترسّخاً في ذاكرة الـ"سينفيليين"، يحلّ فريق المركبة الفضائية "إندورانس" على كوكب ميلِر المائي، المتميّز بقربه الشديد من ثقبٍ أسود، ما يؤدّي إلى مفعولٍ شديد للجاذبية، يمطّ الزمن الذي يمرّ فوقه بشكل أبطأ من الأرض (كلّ ساعة تمرّ على سطحه توازي 7 أعوام من الزمن الأرضي). ينتج عن حادثة اصطدام أحد أمواج المحيط العملاقة بالمكوك تأخير في مهمّة أفراد الفريق، الذين يكتشفون عند عودتهم إلى المركبة الأم أنّهم أمضوا 23 عاماً أرضياً كاملاً فوق كوكب ميلِر.

يبدو سيناريو "أولد" (2021)، للمخرج أم. نايت شامالان (العنوان بالإنكليزية Old يعني الطاعن في السنّ، بحسب الفيلم)، محاكاة أرضية لهذا المشهد، فوق شاطئ ذي رمالٍ ذهبية، ومناظر إكزوتيكية جميلة، وتوابل تمزج الخيال العلمي بغموض أفلام الرعب السيكولوجي. في عطلة صيفية يُمضونها في منتزه على الشاطئ، يتلقّى أفراد أسرة غاي (غايل غارسيا برنال) من مالك الفندق عرضاً مُغرياً: تمضية يومٍ في شاطئ مُنعزل وخلّاب، رفقة مصطافين قليلي العدد، تمّ انتقاؤهم بعناية: طبيب في عقده الخامس وزوجته الثلاثينية، ذات الاهتمام البالغ بمظهرها؛ مُمرّض آسيوي الأصل يلتحق بالمجموعة، رفقة زوجته المُصابة بداء الصّرع. ما إن يصل المصطافون إلى وجهتهم، حتى يرفض سائق الحافلة (يؤدّي دوره شامالان نفسه، في امتدادٍ للمسة ظهوره في أدوار ثانوية في جُلّ أفلامه) مرافقتهم إلى الشاطئ، مُكتفياً بإرشادهم إلى اجتياز ممرٍّ صخري ضيّقٍ، يكتشفون لاحقاً أنّه المنفذ الوحيد إلى الشاطئ، دخولاً وخروجاً، لكونه سفحاً صخرياً شاهقاً، صعب المراس، يحيط به من كلّ الجوانب، فيما يجعل تيار الأمواج العاتية من إمكانية الالتفاف على الشاطئ سباحةً مُهمّة شبه مستحيلة.

تتلاحق الأحداث سريعاً. يكتشف المصطافون جثّة فتاة طافية، يسعى الطبيب، ذو النزعة العنصرية والتصرّفات الغريبة (أدى الدّور ببراعة البريطاني روفوس سيويل)، إلى اتّهام شاب ذي أصل أفريقي، موجود على الشاطئ، بقتلها، من دون أيّ دليل، قبل أنْ تتمثّل المفاجأة الكبرى ببدء ظهور علامات التقدّم في السنّ على الأطفال بشكل مُحيّر. تبوء كلّ محاولات مغادرة المكان، رجوعاً من الممرّ الصخري، بالفشل (يُصاب كلّ من يحاول ذلك بألم رهيب في الرأس، قبل أنْ يلفي نفسه فاقداً للوعي، عند بداية الممرّ، من جهة الشاطئ). يبدأ الجميع في ترجيح فكرة قوة غامضة ترتبط بالمكان، بشكل أو بآخر، تؤدّي إلى تمطيط الزمن، ومروره بالتالي بشكل جدّ متسارع، من وجهة نظر المصطافين.

تُعدّ توطئة أفلام شامالان مهمّة شاقّة، كلّ مرّة، لأنه غالباً ما يشيّد أفلاماً ـ عوالم تقوم على تفاصيل كثيرة، وقواعد تحيل على جمالية ألعاب الفيديو، أو لوحات تمضية الوقت. كما يُشيّد نظاماً مرموزاً ومُعقّداً، يتجلّى فيه تقدّم الحبكة في منح مفاتيح قراءة، تتطوّر أهميتها بشكل تصاعدي مع انجلاء غموض الحكي، حتى بلوغ المفتاح الأخير، الذي يتيح قراءة الكلّ تحت ضوء جديد وغير متوقّع.

هكذا الأمر منذ البداية، مع رؤية العالم بعيون الطفل في "الحاسة السادسة" (1999)، ونظام عيش الشخصيات في مجموعة ذات قوانين معيّنة في "القرية" (2004): الفكرة نفسها عن قوّة خارقة، تُهدّد من يخرج عن حدود المجموعة. أو مخيال كيفن المركّب بعدد الشخصيات التي تكتنف وعيه، في "سبليت" (2017). اللازمة الأخرى في سينما شامالان تكمن في تمحور معظم حكاياته حول العائلة، باعتبارها أصغر نواة تعبّر عن نزعة الإنسان إلى العيش في مجموعات. في أفلامه، تجتاز العائلة غالباً صعوبات، تتجلّى في غياب أحد أفرادها: الافتقار إلى الأم في "علامات" (2002)، والبحث عن أب مُعوّضٍ عن آخر في "الحاسة السادسة"، وصدمة الزوجة المتوفاة في حادث في "فتاة الماء" (2006). هذا يتجلّى في إقبال غاي وزوجته على فراق وشيك، يجدان صعوبة في مصارحة طفليهما به، في بداية "أولد Old".

 

 

يتّسم الفضاء بالانغلاق، رغم أنّ الأحداث تجري على شاطئ البحر، رمز الحرية والانفتاح على المترامي واللامحدود. تجد هذه المفارقة صدى لها في طرح الفيلم، حين تصبح العطلة ـ الموجودة أساساً للترويح عن النّفس و"تعبئة البطاريات" بغية الإقبال على تحديات الحياة بعزيمة وطاقة متجّددة ـ وازعاً لالتهام الزمن الأصلي نفسه ("كرونوفاجيا" قصوى)، وقتل ما بقي من رصيد العمر. وكما اتّخذ لوي بونويل، في رائعته "الملاك المدمّر" (1962، كيف لا نرى في الزمن نوعاً من الملاك المدمّر؟)، من عتبة قاعةٍ حاجزاً سريالياً، يمنع أفراد الطبقة البورجوازية من مغادرة الحفل، كي يلتقط تناقضاتهم، ويفضح نفاقهم وادّعاءاتهم أمام تحديات العيش المشترك، بمجرّد أنْ ينزاحوا عن إيقاع الرفاهية وترف الحياة المخملية؛ يُكثِّف شامالان ـ بواسطة ذريعة تسارع الزمن على شاطئ مغلقٍ ـ شرط الوجود نفسه، قابضاً على عمق علاقة الإنسان بالزمن، بإلقاء ضوء غرائبي على ثيمات مألوفة: التقدّم في السنّ، المرض، انخفاض منسوب القوة، ضعف الحواس، تقبّل الموت. حتّى العلاقات الإنسانية نفسها، كخصومات الأنا ومعنى الحبّ، يصبح لها مغزى جديد بموشور الزمن المتسارع، يختلف كلياً عن السائد.

أجمل مشهد يختزل هذه الحقيقة، جلوس غاي وزوجته جنباً إلى جنب في خريف عمرهما، بعد انحسار بصره وضعف سمعها، ليُعبّرا ـ ببضع كلمات متقطّعة، ولمسات على الوجه ـ عن عدم تذكّرهما سبب خلافهما أصلاً. أو كيف كانت بضع ساعات كافية لمرور مراهقين في كلّ مراحل التقارب والتآلف، حتّى التزاوج المفضي إلى حملٍ قصيرٍ وولادةٍ مفاجئةٍ، تفصل بينهما بضع ساعات فقط، في مشهد آسرٍ ومُغرقٍ في الغرابة والسخرية السوداء، ذات اللمسة الصبيانية (اللعوبة)، التي تشكّل البيئة المفضَّلة للمخرج.

صحيحٌ أنّ تكرار بعض اللوازم (لقطات الجثث الطافية التي تخلق الرعب لدى مكتشفها)، ونزعة المخرج إلى تفسير كلّ شيء في نهاية الحكي، بطريقة "شبه رياضية"، تُهدّد بنسف كلّ معنى للغموض الحمّال لأوجه وتأويلات متعدّدة بتعدّد المتلقّين، التي تشكّل إحدى الدعامات الأساسية للفنّ؛ لكنّ أسلوبه، الذي يتيح له التقاط شعور صادق من هنا، أو غمزة رابط ذكي بين شخصيتين من هناك (مثال التبئير المرآوي الرائع، الذي يحمله التقابل بين مهمّته كمخرج والدور الصغير الذي يضطلع به عند تجلي الحبكة)، يكفي غالباً لتشفع له كلّ زلاته.

الموطن الأساسي لبراعة م. نايت شامالان يتمثل في قدرته على المزج بين الأنواع، وخلق أجواء الإيقاع المتوتّر والتشويق، التي تُجذّر الفيلم في نوع من "سلاشر" (القتل المتوالي للشخصيات في فضاء مغلق بواسطة آلة حادّة) ما فوق بَيْعي، يضطلع بمهمّة القاتل فيه الزمن نفسه، جاعلاً من يوم اصطياف على شاطئ البحر استعارة لزمن الحياة البشرية، يكتسي فيه غروب الشمس سوداويةً مهدّدةً تحاكي قتامة أفول العمر، ويغدو تنوّع ردّة فعل الشخصيات، إزاء معضلة التقدّم السريع في العمر، مجازاً بليغاً لاختلاف التجربة البشرية على وجه الأرض باختلاف الأفراد وطبائعهم.

لعلّ مشهد ركون الشاب وأخته، بعد تقدّمهما في العمر أكثر من عقدين في بضع ساعات، لتشييد قصر من الرمال، ليهتديا أخيراً إلى التفكير في حلٍّ لمأزقهما، في نهايةٍ لن نفصح عن تفاصيلها، إذْ يُمثّل لبنةً جديدة في طرح المخرج، الذي يعتبر الحبّ (حبّ الحياة هنا) أعظم قوى ما فوق طبيعة؛ يُشكّل (هذا المشهد) في الآن نفسه أروع تعبيرٍ عن أنّ اغتنام اللحظة العابرة، ولو في أكثر فترات العمر صعوبةً وحرجاً، يبقى ربما أسمى اختيارٍ للتعاطي مع شرط الفناء الإنساني.

المساهمون