تينا تيرنر... صوت لا يزال في المستقبل

تينا تيرنر... صوت لا يزال في المستقبل

31 مايو 2023
مزجت البوب والروك آند رول والآر آند بي (ديف هوغان / Getty)
+ الخط -

إن كان عند المرء ما يعطيه ولديه إرادة العطاء، فقد يكون مجرد الظهور أمام باب القدر في المكان المناسب، وعند الوقت المناسب، هو المفتاح الذي به تُغلق حياة وتُفتح حياة. وفي سِيَر الكبار، ممن وهبوا الإنسانية العلم والجمال، ولأنفسهم النجاح والشهرة، كثيراً ما تتردد تلك الحكاية أشبه بلازمة، وسيرة تينا تيرنر (1939 - 2023) "ملكة الروك آند رول" التي رحلت عن العالم الأسبوع الفائت، لم تكن استثناء.

في سنة 1956، كانت ابنة السابعة عشرة عاماً واسمها عند الولادة هو آنا، مولعةً بالغناء، الذي نشأت على تعلمه وممارسته من خلال طقوس الكنيسة الأفروأميركية. لما علمت بأن أختها إيلين تتردد على أحد نوادي الجاز في مدينة سانت لويس، توسلت إليها أن تصحبها معها. ما إن اعتلت آنا المنصة ذات مساء من يوم سبت شتوي بارد وبدأت بالغناء، حتى سحرت جميع القلوب، بمن فيهم قلب آيك ترنر رئيس فرقة The Kings of Rhythm، عازف الغيتار والمنتج الفني الحذق صيّاد المواهب.

لم تمض بضعة أشهر حتى دعا آيك الشابة الشغوفة الطموحة إلى تسجيل أغنية بعنوان A Fool In Love. فيها، ستصاحب بصوتها إحدى المغنيات المحترفات. لئن غابت المغنية عن موعد التسجيل، في حين ظهرت آنا تضج بالحماسة والطاقة، اُسند للأخيرة مقطع الغناء الرئيس لتبلي أحسن بلاء.

بهذا، أغلقت صفحةٌ من حياة عادية لابنة أسرةٍ فقيرة من ولاية سانت لويس، هجرها أبواها وربتها جدتها هي وأختها، لتبدأ صفحةٌ من حياة أخرى جديدة، خلالها تتربع آنا، بعد أن صار اسمها تينا، لأزيد من عقد على قمة هرم مشاهير الغناء الاستعراضي في أميركا والعالم.

لن تسير تينا أول الدرب وحيدة، وإنما برفقة آيك، الذي سيصبح زوجاً لها، وضمن فريق باسم Ike Turner and the Ikette الذي برز حينها كأول التشكيلات النسائية في موسيقى البوب الجماهيرية خلال عقد الستينيات، أو ما يُعرف بـGirl group. بالإضافة إلى الحيازة على صوت مكين وحنجرة قوية، تؤدي مغنيات الفرقة أدواراً استعراضية من رقص وإيماء وإثارة. كما ستضطلع جوقة نسائية بمهمة دعم حضور تينا المنفرد على المسرح ومدّها بخملة الغناء الجماعي المصاحب.

النجاح الأكبر الذي ستحظى به كل من تينا وآيك كثنائي موسيقي صاعد أتى سنة 1961، مع إصدار أغنية مفردة بعنوان It's Gonna Work Out Fine، سيغدو عنوانها اسماً لألبوم تُلحق به الأغنية وإن بنسخة مطوّلة نالت عليه تيرنر جائزة غرامي سنة 1962. كما توازى الإصدار مع رواج دعوة نجوم البوب إلى العروض التلفزيونية؛ إذ بات ظهورهم خلالها عاملاً أساسياً في انتشار أغانيهم إبان الفترة الذهبية لتلفزيون الأبيض والأسود.

مثّل عقد السبعينيات مخاضاً عسيراً للنجمة المتألقة على كل من الصعيدين الشخصي والفني. لا بل إن تداخل كليهما من حيث المعاني والمآلات، قد أسهم في ولادة الشخصية الفنية الأسطورية التي جسدتها تينا تيرنر كما عرفها جيل الثمانينيات؛ المرأة الحديدية الخارقة التي تصدح حنجرتها الجبارة، صوتُ الذات الفردية المدفوعة نحو التفوق بقوة العزيمة والتصميم، يتردد صداه في مناخات ثقافية نيوليبرالية، وهي صاعدة بدت كما لو أنها ساعية إلى تبني الجدارة معياراً للنجاح، والتمكين خطاباً للمساواة على الأخص في ما يخص المرأة والرجل.

تحت قشرة التألق والشهرة، رزحت النجمة المتألقة لسبعة عشر عاماً تحت وطأة كل من الاستغلال والاستبداد والعنف المنزلي الذي مارسه ضدها زوجها آيك، وظلّ شريكها ومدير أعمالها. مع ازدياد انغماسه في تعاطي المخدرات اضطراداً مع ازدياد ألق وجماهيرية زوجته، بلغ توحّشه في تعويضٍ يائس عن شعور بالغ بالنقص حداً لم تعد لتطيقه تينا.

هكذا، وبعد محاولة فاشلة لها بالانتحار، قررت الانفصال والبداية من جديد. من نقطة الصفر، وبأقل من دولار واحد في جعبتها، قالت لآيك: "لك أن تحتفظ بكل جنى الماضي، أما أنا فسأكتفي بالمستقبل"، لتشرع في البحث عن طريق من جديد، ستتطلب موسيقى مغايرة وهيئة مختلفة للنجومية الغنائية، تحاكي روح العقد القادم.

كان للمنتج الفني الأسترالي روجر ديفيس الدور البارز في صياغة حضور تينا تيرنر الذي أضاء سنين الثمانينيات. أشار ديفيس على تيرنر بأن تغيّر من أسلوب غنائها ونمط رقصها ومن تشكيلة الفرقة التي تصاحبها. غايته كانت ألا يتم الإعلان عن عودة نجمة من الستينيات إلى ساحة الفن الجماهيري، وإنما الإعلان عن ولادة نجمة جديدة أكثر عصرية. هكذا، فإن سنتين من العمل الدؤوب تبلور منها سنة 1984 إصدار ألبوم بعنوان Private Dancer.

تتبدى الملامح الجمالية للحقبة التيرنرية ضمن الألبوم في أجلى صورها من خلال أغنية I Can't Stand The Rain؛ إذ تُسمع أقرب إلى أسلوب الهارد روك منه إلى الآر آند بي الذي لطالما شكل علامة تينا الأسلوبية الفارقة. لئن كان للأغنية ماض يعود بها إلى مطلع السبعينيات حين غنتها آن بيبيلز لأول مرة، فإن صخب طبول الدرامز وأزيز الموسيقى الإلكترونية المميزة للروح التيرنرية الجديدة قد نقلا مزاج الأغنية الأصلية من البلوز الكئيب إلى فوران الروك وعنفوانه.

القوة والفوران، الشجاعة والعنفوان، سمات عززتها تينا ترنر، سواءً بالغناء أو بالحضور الجسدي والروحي، أو حتى بسيرة الحياة. ستغني أغنيتها الأشهر على الإطلاق The Best التي صدرت سنة 1988 ضمن ألبوم Hide Your Heart؛ لتأتي الكلمات لتنعت الحبيب بأنه الأفضل، إلا أنه ثمة ميزة تمكينية خاصة للأغنية، تكمن في التلحين أو الأداء، أو كليهما، تعيد توجيه الرسالة لتُخاطب ذات أنا تيرنر كما لو كانت تنظر إلى نفسها في المرآة، تقول لها: "ببساطة، أنت الأفضل".

المساهمون