تكتيك نافالني: عندما يتفوق الإنترنت على التلفزيون

تكتيك نافالني: عندما يتفوق الإنترنت على التلفزيون

02 فبراير 2021
صحافيون يغطون محاكمة نافالني في 28 يناير الماضي (سيرغي بوبيليف/Getty)
+ الخط -

شكلت عودة أليكسي نافالني، أشد معارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى موسكو أخيرًا، معضلةً للقيادة الروسية، بعد رحلة علاج وتأهيل استمرت خمسة أشهر في ألمانيا التي نقل إليها في حال من الغيبوبة، تعرضه للتسميم في سيبيريا خلال شهر أغسطس/آب من العام الماضي، وإثبات المختبرات في العديد من الدول الأوروبية وألمانيا أنه تعرض للتسميم بغاز الأعصاب المستخدم في الحروب "نوفيتشوك".

نافالني الذي تعرّض فور وصوله إلى موسكو للاحتجاز، نشر فيديو بعنوان "قصر بوتين" يقع على ساحل البحر الأسود، ووصفه بأنه أكبر فضيحة فساد في تاريخ روسيا، وبأنه دولة داخل الدولة. وكان أحد دوافع الاحتجاجات الجماهيرية في البلاد، رغم نفي الرئيس بوتين لاحقاً امتلاكه القصر المذكور، وإعلان الملياردير ورجل الأعمال الروسي أركادي روتنبرغ أنه يملكه، إلا أنها تركت العديد من الأسئلة المشروعة في هذه القضية. حيث كانت شبكة الإنترنت كفيلة بالإضاءة عليها، وهي الوسيلة التي اعتمدها نافالني في سن مبكرة، ليقوم بتسليط الضوء على الفساد المستشري في البلاد، وشكلت إحدى أهم اهتماماته، كما وحياة الرفاهية للنخبة الثرية في البلاد، مع تقديمه للأساليب الملتوية للفساد التي يستخدمها النظام لتكديس الثروات. وتمكن نافالني أخيرًا ومن خلال الفيديو من دفع المعارضين في روسيا، الغاضبين أساساً على احتجازه للاحتجاج، لا سيما أنّ الشريط يحتوي على مشاهد تبين مظاهر الرفاهية والفخامة، من الأثاث الباهظ وحلبة الهوكي وبارات الرقص والكروم وغيرها، إذ تبلغ المساحة الإجمالية، وفق صحفية "دي فيلت"، أضعاف مساحة موناكو الفرنسية.

كل هذه المؤشرات تبرز تفوق الإنترنت على التلفزيون، بعد أن تمكن المعارض نافالني من إثبات حضور قوي على وسائل التواصل الاجتماعي، وبينها تحديداً منصات "يوتيوب" و"إنستغرام" وحتى "تيك توك". حتى أن وسم نافالني سجل أكثر من 1,5 مليار مشاهدة. إلى ذلك، استطاع نافالني وبشكل رئيسي أن يطاول فئات الرجال والنساء الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، وفق ما بينت التقارير الإعلامية وبينها ما بينته شبكة "إيه آر دي" الإخبارية و"شبيغل أونلاين"، وهم بأكثريتهم يستقون معلوماتهم عن الشبكة، ونادرًا ما يستعينون بالتلفزيون الحكومي. هذا الواقع، دفع بليونيد فولكوف، أحد المؤيدين لنافالني للقول لـ"شبيغل أونلاين"، أنه لم يعد بإمكان الكرملين أن يتجاهل "المدون البسيط" كما كان الأمر في كثير من الأحيان من قبل، وهذه المرة الأولى التي نرى فيها انتصار الإنترنت على التلفزيون. مع العلم، أن الفيديو شوهد من قبل أكثر من 91 مليون شخص، بينهم 25 مليوناً خلال أول 24 ساعة، ولا يزال يلقى تفاعلاً على المنصات الرقمية. 

حضور قوي لنافالني على يوتيوب وإنستغرام وتيك توك 

توسع الاحتجاجات في أكثر من 125 مدينة روسية، سابقة قد تشكل حقبة جديدة في تاريخ الاحتجاجات في روسيا، ويعيدها المراقبون إلى إمكانية التواصل السريع عبر الشبكة العنكبوتية والمنصات وبينها "تيليغرام"، في وقت تصرف الأموال والضرائب وأموال النفط والغاز على البذخ المفرط من قبل الطبقة الحاكمة، حيث تفيد التقارير أن تكلفة القصر وصلت إلى 1,1 مليار، وموِّل من مجموعة من الشركات المقربة من بوتين مع وجود رشاوى. عدا عن أن نافالني كان محط متابعة وإعجاب من قبل المواطنين، ما حتم على الكثيرين التضامن معه، وللشجاعة التي تحلى بها وبقراره العودة الى البلاد رغم الأخطار، وعزمه مواصلة نشاطه السياسي من روسيا، مع علمه المسبق بأنه سيواجه السجن. كل ذلك، أكسبه تعاطفاً في الداخل والخارج، فتجرأ الناس على الخروج والاحتجاج في جميع أنحاء البلاد. 

وفي هذا الإطار، بينت "دي فيلت" أن نافالني نجح في أن يظهر من حبسه الاحتياطي أن الشعب الروسي الساخط لا يعيش فقط في موسكو التي تنتقد بوتين تقليدياً، ولكن في كل مكان. وكان هناك اعتراف بأن هذا النوع من الاحتجاجات لم يشهده التاريخ الحديث لروسيا من قبل. وبينت الصحيفة عينها أن 42 بالمئة من المشاركين نزلوا لأول مرة إلى الشوارع، وأنه على عكس ما تدعيه الدولة الروسية، لم يعد هناك تعاطف من الشباب، الفئة النشطة عبر الشبكات ووسائل التواصل، كما من قبل مع رئيس الكرملين بعد أن تراجعت مداخيلهم وقدرتهم الشرائية، وبات معظم الناس غير قادرين على تغطية نفقاتهم، بسبب زيادة الفقر خلال السنوات الأخيرة وتقلصت الطبقة الوسطى وبعد أن زاد وباء كورونا من حدة الأزمة الاقتصادية. 

ومع نفي بوتين أخيراً امتلاكه أو أحد من أقاربه للقصر، برزت تعليقات تفيد بأنّ نافالني لم يزعم مطلقاً ذكر الرئيس في الوثائق الرسمية في ما يتعلق بالقصر، إنما أوضح بالتفصيل فساد الحاشية حول الرئيس. وترك رئيس الكرملين في معرض نفيه، أسئلة رئيسية من دون إجابات، تم التداول بها في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل، بينها "لماذا توجد منطقة حظر طيران فوق العقار الفاخر؟ ولماذا يجب الإبحار بعيداً عن القصر بأمر من المخابرات؟ ولماذا يتم تأمين حراسة القصر من قبل أجهزة أمنية مسؤولة عن أمن الرئيس وأعضاء الحكومة؟ ولماذا لم ينشر الكرملين أسماء رجال الأعمال أصحاب هذه الممتلكات؟".

والسؤال الآن "كيف ستستمر الاحتجاجات مع إعلان أنصار نافالني عن المزيد من التظاهرات باستخدام التطبيقات على الشبكة؟ حيث تشير كل التوقعات إلى أنه سيكون هناك مزيد من الاعتقالات في جميع أنحاء البلاد، وهو ما حصل السبت الماضي أيضاً، كما يتوقع أن تصدر بحقهم أحكام بالسجن بعد محاكمات صورية، وسط تزايد الأعمال الانتقامية ضد رفاق نافالني وعائلته.

في هذا الشأن، اعتبر الكاتب بافيل لوكشين، أن تبعات هذه التحركات ستظهر بعد فترة قصيرة، وما إذا كانت حركة نافالني الجديدة قادرة على تطوير ديناميكية مستدامة على الرغم من التهديد والترهيب من قبل السلطة. وإذا حدث ذلك، يمكن الحديث عن أن الاحتجاجات في روسيا ستتجاوز البيئة التقليدية للساخطين على الحكم. قبل أن يستدرك أنه حتى ولو حدث ذلك، فهذا لا يعني أن بوتين سيضعف بشكل حاسم، لكن في عام انتخابات مجلس الدوما سيكون ذلك بلا شك سبباً لتوتر رئيس الكرملين. 

وفي السياق، أبرزت "دي فيلت" أن نظام بوتين المستبد الذي لا يقبل الانتقاد حكمه ليس أبدياً. منذ عقدين ونظامه يولد التناقضات على مرأى من النخبة وعامة الشعب، بعد أن كان قد طرح تعديلات دستورية على التصويت تمكنه من الحكم مدى الحياة. وأبرزت أنّ بوتين لديه مشكلة، فالنظام الذي بناه بدأ يهتز تدريجياً، وكلما زادت قوة بوتين ودائرته المكونة من قادة أجهزة المخابرات والأوليغارشية، كلّما ظهرت التناقضات والآثار الجانبية لأسلوبهم الاستبدادي في الحكم. كل ذلك، في وقت ما زال الرئيس بوتين متمسكاً بمظهر الديمقراطية المنهار بعد أن بات مجلس الدوما يخدم بشكل صارخ أجندة ومصالح الكرملين بدلاً من البحث عن الإجابات الصحيحة للمشكلة التي تحدد عمل ودور البرلمانات في الدول الديمقراطية. 

أكثر من ذلك، أشارت صحيفة "تاغس تسايتونغ" إلى أن نافالني ومن داخل زنزانته الانفرادية يواصل معارضته للنظام وهذا ما قد يفقد السلطة صوابها، ويشكل كابوساً للإدارة هناك، وذلك بعد أن عمدت أخيراً وسائل الإعلام التابعة للنظام إلى الحديث عن أكاذيب وعمليات تضليل وغسل للأدمغة يتعرض لها المواطنون. وفي خضم ذلك، يسود الخوف من أن تنزلق روسيا إلى مستقبل غير واضح وتعمها الفوضى مع محاولة الكرملين التقليل من أهمية الاحتجاجات، كما الخوف من عدم السماح للمعارضين بالتصويت خلال الانتخابات التي ستنظم قريباً من دون منافسة حقيقية.   

المساهمون