تأمّلات في فوتوغرافيا الجوع: انتحار الأسماك على شواطئ الشقاء

تأمّلات في فوتوغرافيا الجوع: انتحار الأسماك على شواطئ الشقاء

12 ابريل 2023
حقل قمح في أوكرانيا (الأناضول)
+ الخط -

تحتلّ الصورة موقعاً مركزياً في الخطاب الإعلامي المعاصر. نشرَتْ وسائل إعلامية صُوراً مُرعبة عن متاجر فارغة في لندن. صُور مُلتَقطة في سوبرماركت، في عاصمة الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس. الإمبراطورية التي نهبت شعوباً كثيرة، في قرونٍ مديدة، ثم تغيّر مسار التاريخ.
نُشرت الصورة في فبراير/شباط 2023، ونُسِيَت بسرعة. لكنّ دلالتها تعمل، يومياً، في حياة البشر، الذين خبروا الجوع آلاف السنين، ويعيشه الآن نحو مليار شخص. بحسب تقريرٍ للأمم المتحدة، بلغ عدد الجياع في العالم 828 مليون فرد، عام 2021. هذا رقم مُرشّح للارتفاع في قارتي أفريقيا وآسيا.
تُظهر الصورة كيف تبدّدت الوفرة، وحلّت محلها الندرة. يتسبّب نقص الغذاء في ضغوطٍ نفسية، وأمزجة بشرية متشائمة. يتسبّب في هجرات، وفي حروبٍ تُذكّر بالبدايات الخطرة، بداية الإنسان الصياد. ينجو من يُتقِن الصيد، منذ آلاف السنين. صيد الرزق ليس سهلاً. من يصطاد، يُصاب في الطريق. كلّما كَثُر البشر وقَلّ الأكل، صار صيد الطعام صعباً. يقول كارل ماركس إنّ "تاريخ البشرية تاريخ البحث عن الطعام". لم يلتفت الرفاق، قَطّ، إلى هذا الشعار. آن الآوان ليكون على رأس جدول الأعمال.
جابت تلك الصورة المشؤومة صحف العالم. ماذا يُمكن لصورة أنْ تقول عن مرحلة؟ لماذا هذه الصورة؟ لأنّها صورة مُنتَزَعة مما يسمّيه رولان بارت "الثرثرة التقليدية" ("الغرفة المضيئة، تأمّلات في الفوتوغرافيا"، ترجمة هالة نمر، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص 55). صورة تحتاج إلى وقفةٍ، لأنّه من دون طعام، ينقرض البشر.

سوبرماركت فارغ لندن/تويتر
نشرَتْ وسائل إعلامية صُوراً مُرعبة عن متاجر فارغة في لندن (تويتر)

"نُذر الجوع"، عنوان الصورة المُلتَقطة في السوبرماركت، المكان الأكثر جاذبية في المدينة. صورة تلخِّص ما قبلها وما حولها، وما سَيلِيها. من هنا، تنبع ضرورة التفكير في أنثروبولوجيا الجوع، لفهم مستقبل ثمانية مليارات فمٍ، تحتاج إلى الأكل ثلاث مرّات في اليوم.
تحليل صورةٍ تمرينٌ أساسيّ لتحليل صُوَر فيلمٍ. يتحدّث بارت عن ثلاثة مستويات لتحليل صورة: الجانب الإخباري، الجانب الرمزي، الجانب الانفعالي. تُخبرنا الصورة عن زبائن ذاهلين أمام الرفوف الفارغة في متاجر لندن.
ما دخل المغرب في هذا؟ أوقفت الحكومة المغربية، فجأة، تصدير الخضار إلى بريطانيا، خوفاً من الاحتجاجات. صار الخضار حدثاً سياسياً. ارتفع موقع البصل في سلّم الخضار وطبقاته. بحسب سعر صرف الدرهم المغربي، تجاوز سعر كيلو البصل، في الرباط، الدولار الأميركي الواحد. لذلك، تواضع وزير الفلاحة والصيد البحري المغربي، محمد صديقي، وصار يزور أسواق البصل، لتهدئة الاحتجاجات الشعبية. لهذه الاحتجاجات المحلية أبعادٌ عالمية. لكي يُصدِّر المغرب الخضار، يُقلّل زراعة القمح، فيضطرّ إلى استيراده.
ما العلاقة بين قصعة كسكس في مطبخ مغربي، وحقل قمح في شرق أوكرانيا؟ العلاقة كامنةٌ في أنّ السميد، الذي قَلّ في الأسواق، تضاعف ثمنه. كلّما ارتفعت أسعار الطعام، زاد شقاء البشر. هكذا تمدّدت الأبعاد الرمزية للصورة مع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وسوء الأحوال الجوية، ومشاكل النقل، ونقص المحاصيل في أفريقيا وأوروبا. هكذا تختزل الصورة، موضوع التحليل، ما سمّته "إل باييس" (صحيفة يومية إسبانية) "أسوأ ثلاث سنوات (2020، 2021، 2022) في تاريخ الاقتصاد الحديث".
سيُغيّر هذا من استراتيجيات الحكومات. اتّضح أنّ التركيز على اقتصاد الخدمات، سيجلب الجوع. لا يمكن الاعتماد على تأمين الإمدادات خارجياً. يجب على كلّ دولة الاعتماد على نفسها لتأمين طعام شعبها. حين تحمي كلّ دولة حدودها، وتوقف التصدير لتأمين احتياجات شعبها، تُصبح العولمة في خبر كان. سيكون لهذه الأزمة ما بعدها.
عند القيام بمقاربة أنثروبولوجية لمحتوى الصورة، يظهر الجانب الانفعالي لوزن الجوع في حياة البشر. تُظهر جدالات الأسعار، وأخبار انهيار المصارف، أنّ الإنسان حيوان اقتصادي، يُنتج ويحسب ويدّخر ويقتصد، ليؤمّن نفسَه على المدى البعيد. من دون هذا، يصير وجوده مُهدّداً. الجديد أنّ صورة متجر فارغ أخطر من صورة مصرف يُفلس. لكنْ، للإعلام السريع منطقه. تحظى صورة ممثلة بساقين عاريتين على بساط أحمر باهتمام إعلامي، أكثر مما تهتمّ وسائل الإعلام بمظاهر الجوع.
كيف ينعكس هذا على نمط عيش الناس؟ كيف يخبر الوجه عن جوع البطن؟
صورة خطر الجوع ليست للمتعة. ليست صورة في إطار "الفنّ للفن". إنها توثيقٌ لخطر وجودي. نتجت المجاعات السابقة من الجفاف والجراد والغلاء والطاعون والكوليرا. لذلك، يحضر الجوع في الأدب والسينما والرسم. يحتاج الفنانون وكتاب السيناريوهات إلى معرفة دقيقة بسياقات منجزهم الفني، كي يكون تأثيره عميقاً.

صورة خطر الجوع ليست للمتعة (طوني كارومبا/ فرانس برس)

تترك الندرة بصمتها في سلوك البشر. كتب ثيربانتيس، عام 1605: "الجوع والبؤس عدوّان للحبّ" (دون كيخوته). عرض الفيلم الإسباني "بلاتفورم" (2020)، لغالْدِر غازْتولو ـ أوروشّا، تحوّلات مائدة، تتنقّل بين الطبقات، وتجري حولها صراعات شديدة، ولا تبقى إلا الفضلات للطبقات السفلى. لهذا سوابق. يحكي سفر المُلوك الثاني (الإصحاح 6) أنّ الناس جاعوا "حَتَّى صار رأس الحمارِ بثمانين من الفضَّة". يحكي مناقبي مغربي، عام 1220، عن وليّ صالح جاع، فتوضأ وصلّى ركعتين، "فأذهب الله عنه الجوع والعطش". (ابن الزيات، "التشوف إلى رجال التصوّف").

هذا جزءٌ من تاريخ المغرب. لكنْ، من يشاهد المسلسلات التاريخية، التي تعرضها التلفزة المغربية، سيتوهّم أنّ تاريخ المغرب جرت وقائعه في رياضٍ مفروشة، ومُلحقة بـ"فندق المامونية" في مرّاكش. هذا تزييف للتاريخ. لتذكير كتّاب سيناريوهات مسلسلات تاريخية، تجري في صالونات، روى المناقبي المذكور أعلاه أنّ وليّاً صالحاً "رأى مُصلّياً غير متخشِع، فجاءه برغيف، وقال له: خُذْ يا من ليس له هَمّ سوى بطنه".
في سياق الجوع الراسخ في ذاكرة البشر، روى المناقبي أنّ وليّاً صالحاً آخر كان يسيح قرب البحر، فشعر بالجوع. فوراً قفزت إليه سمكة، فأكلها نيئة لا مطبوخة. هكذا أرغم الجوعُ خيالَ الراوي على ابتكار صورة انتحار السمك من أجل البشر.

المساهمون