المتحف المناهض للحرب... كي لا تتكرر الكارثة مرة أخرى

المتحف المناهض للحرب... كي لا تتكرر الكارثة مرة أخرى

23 مايو 2022
صادر النازيون المبنى وأغلقوا المتحف لأول مرة عام 1935 (جون ماكدوغال/ فرانس برس)
+ الخط -

في محطة القطارات المركزية في برلين، يتجوّل العديد من الشابات والشبان وهم يرتدون ستراتٍ صفراء وحمراء، ويحملون أعلاماً صغيرة مستديرة، أوكرانية أو روسية، على ظهورهم أو صدورهم. يستخدم هؤلاء المتطوّعون مهاراتهم اللغوية من أجل الترحيب باللاجئين القادمين من أوكرانيا، ومساعدتهم في التوجه إلى خيمة الترحيب الأولية أمام المدخل الرئيسي للمحطة. يتلقى النازحون الأوكرانيون الرعاية الأولية وفرصة الراحة بعد رحلةٍ طويلة في هذه الخيمة. 
تومي شبري طرد من بلده أيضاً، وكان لاجئاً في يوم من الأيام. ولد تومي عام 1940 عندما كان مع والديه في المنفى في بريطانيا. أجبرت الأسرة على مغادرة بلدها لأنّ الاشتراكيين الوطنيين (النازيين) كانوا يضطهدون جد تومي، إرنست فريدريش. لم يحب الإنكليز آراء فريدريش، التي طورها في أثناء أهوال الحرب العالمية الأولى. فلسفة فريدريش تمحورت حول المقاومة السلمية واللاعنف ومعاداة السلاح. الحفيد تومي يدير الآن المتحف المناهض للحرب Anti-Kriegs-Museum في العاصمة برلين، وتحديداً في منطقة فيدينغ Wedding.
إذا مررت بالمتحف من خلال الباب الزجاجي الخارجي، ستسمع رنيناً كالذي يصدر من أبواب المتاجر. لكنّ هذا ليس متجراً، فبدلاً من عرض البضائع توجد خزانات مثبتة على الجدران، تحتوي على جنود من القصدير والبلاستيك، يجلسون ويتناولون الزبدة في يوم أحد اعتيادي. العناصر مصممة لإعطاء صورة بأنّ الحرب جزء من الحياة وأمر طبيعي. الصور الموضوعة على المدخل تعطي انطباعاً آخر. بالألمانية مكتوب فوقها "الرؤى المقطعة"، وهي صور تظهر وجوه الأشخاص ذوي الإعاقة، في الحرب العالمية الأولى مع رسالة تحتها: "لن تتكرر أبداً". تنبعث من تومي رائحة الحائط القديم والمقاعد المريحة، في الغرفة الخلفية من المجلس، يقول تومي في لقاء مع تلفزيون "آر تي": "نريد كسب مزيد من الشباب إلى صف أفكار التسامح والتفاهم الدولي والإنسانية. لا يمكننا إنشاء كوكب إلّا من خلال مشروع السلام العالمي".

عذّب النازيون المسؤولين عن المتحف بوحشية خلال ثلاثينيات القرن الماضي

هذا بالفعل ثالث متحف مناهض للحرب يدار من قبل العائلة. أسس جد تومي، فريدريش، أول متحفين. ولد فريدريش عام 1894، تخلى عن التدريب المهني الذي كان يقوم به، وتلقى دروساً في التمثيل ضد إرادة والده. أصبح القارئ الموهوب في المدينة، إذْ كان يملأ القاعات وهو يقرأ أعمال المؤلفين الكلاسيكيين. انضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 1911، وكان ناشطاً سياسياً. اللحظة الحاسمة في حياة فريدريش، سفره إلى السويد قبل الحرب العالمية الأولى، ولقاؤه القسّ المسالم، بيير غيبيرغ، الذي قدمه إلى الروائي الروسي تولستوي.
عندما اندلعت الكارثة الكبرى في القرن العشرين، الحرب العالمية الأولى، كان فريدريش واحداً من القلائل المعترضين على أداء الخدمة العسكرية بدافع "الضمير" في الجيش الألماني. تمسّك بقناعته: "لا أعرف أعداءً.. أعرف الناس فقط". سُجن عدّة مرات، وبدا سلوكه غريباً وخطيراً بالنسبة إلى السلطات الألمانية، وأُودع في جناح المراقبة في مستشفى الأمراض العقلية! بسبب وضعه في المستشفى، لم يمت الجد في الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة حوالى مليوني شخص وجرح 2.7 مليون شخص في ألمانيا وحدها. في عام 1919 شارك في انتفاضة سبارتاكوس مع الشيوعيين، لكنّه سرعان ما اختلف معهم بسبب ولاء الشيوعيين لموسكو. كان فريدريش مقتنعاً بأنّ الشيوعيين يقفون مع دولة تحارب أيضاً. رفض كلّ الدول، وأصبح أناركياً (لا سلطوي).

آداب وفنون
التحديثات الحية

كرس فريدريش حياته من أجل التنديد بالحروب من خلال شرح فظائعها. أسس في عام 1925 "المتحف الدولي الأول المناهض للحرب" في برلين. أزعج هذا المشروع النازيين كثيراً، إذ صادروا المبنى في عام 1935، وعذبوا المسؤولين عن المتحف بوحشية. سجن فريدريش في معسكر اعتقال "أورانينبورغ"، لكنّه تمكن من الفرار مع عائلته إلى بروكسل عبر جمهورية التشيك وسويسرا. في بروكسل، فتح المتحف الثاني المناهض للحرب في عام 1936 بدعم محلي. ولما وصل النازيون إلى بلجيكا باشروا بتدمير المتحف. اختبأ فريدريك في ريف فرنسا، كانت ابنته وزوجها، والدا تومي شبري، في لندن في ذلك الوقت.
في 2 مايو/ أيار المنصرم، مرت 40 عاماً بالضبط منذ أن أعاد تومي افتتاح المتحف للمرة الثالثة. في ذلك الوقت كان لا يزال مدرساً للغة الإنكليزية والتاريخ والرياضة، ولا يزال عضواً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وناشط سلام. في عام  1981 دعت الرابطة الدولية لحقوق الإنسان شبري لتقديم محاضرة عن عمل جده فريدريش. دُعم شبري من أجل إعادة افتتاح المتحف لكي يصبح مكاناً لدعاة السلام.
استعاد تومي بعض القطع المعروضة سابقاً في متحف جده، صادرتحديداً القطع الأصلية من زمن الحرب العالمية الأولى. توجد صورة مثلاً تظهر أكبر قذيفة ألمانية سقطت على المدن البلجيكية والفرنسية في الحرب الألمانية بين عامي 1914-1918. يقول تومي إنّ المتحف غالباً سيضع صوراً من المدن الأوكرانية المحطمة، كخاركيف وماريوبول وغيرها. يؤكد تومي في حوار مع مجلة دير شبيغل الألمانية أنه "يجب أن تتخلص البشرية من كلّ الأسلحة النووية حتّى نتمكن من البقاء على قيد الحياة". في الطابق السفلي من المتحف، توجد صور لغارات جوية من الحرب العالمية الثانية، وكراسي المطبخ التي كانت الأسر تضعها بالقرب من الجدران وقت القصف، وديكورات المنازل التي أصبحت أمكنة للحجر والاختباء في زمن الحرب، كالسجادات والأدوات المنزلية.

يحتوي المتحف على عروض صوتية أيضاً، إذْ يعرض تسجيلاً قديماً من إبريل/ نيسان 1945 من راديو برلين، يحذر من الغارات الجوية الليلية. سُجِّلَت أصوات القنابل وأزيز الرصاص والصوت المميز لانفجار العبوات الناسفة. يقول تومي: "نعيد إحياء الحرب بالصوت كي نحذر من بشاعتها". 

المساهمون