العائلة العربية: معاينةٌ سينمائية للأوسع

العائلة العربية: معاينةٌ سينمائية للأوسع

04 مايو 2022
عفاف بن محمود (أطياف): تمثيلٌ يرتكز على ملامح ونظراتٍ (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أفلامٌ عربية عدّة، حديثة الإنتاج (2021)، تجعل عائلات عربية ركيزة درامية لمعاينة واقعٍ واجتماعٍ وبيئات، بعضها غارقٌ في حروبٍ متنوّعة، كالفساد والاقتتال الطائفي ـ المذهبي، والاحتلال الإسرائيلي أيضاً. المرض يُصيبُ فرداً، فتتبدّل أحوالٌ وحالات وعلاقات. ثقل موت ابنٍ أو أمّ طاغٍ على أبٍ أو ابنٍ، فتُسرف العائلة في الانفكاك والتحلّل، ما يُتيح للكاميرا توغّلاً درامياً جمالياً في نفسٍ وانتكاساتٍ، كما في عيونٍ تُراقب وتحاكِم.

العائلة سببٌ درامي لتفقّد معاناة أناسٍ وجماعاتٍ. عائلاتٌ، غير مكتملة أحياناً بسبب موتٍ أو هجرة أو خروج عليها ومنها، تواجِه مصائب أقدارٍ تحلّ على فردٍ فيها، فتتفشّى المصائب في أرواح الجميع، ونفوسهم وأجسادهم. عائلاتٌ أخرى تحاول لملمة بقاياها، المنفلشة على اجتماعٍ وعلاقاتٍ وانفعالاتٍ، في بيئاتٍ ضاغطة، إنْ لم تكن قاتلة. خارج العائلة، بأشكاله المتفرّقة، سببٌ؛ لكنّ التفكّك حاصلٌ بسببٍ ما يعتمل داخلها، أو بعضه على الأقلّ، أيضاً: سوء تفاهم؛ خضوع (وإنْ يكن مؤقّتاً) للرجل، أباً وزوجاً، قبل انفجار محتّم ومتوقّع؛ مرضٌ يتسلّل إلى جسدٍ، قبل تمدّده في آخرين، بأرواحهم ونفوسهم.

أفلامٌ كهذه جزءٌ من مشهدٍ، يؤكّد مجدّداً أنّ في السينما العربية حديثة الإنتاج غلياناً درامياً وجمالياً وفنياً، جديراً بمتابعة وانتباهٍ. قسوة اليوميّ مشتركٌ أوّل بين نصوصٍ، تستلّ حكاياتها وحالات ناسها من ذاك الواقع، وقسوته. بعض الإنتاجات يُعرض في مسابقة الأفلام الطويلة، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 مايو/أيار 2022) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)"، بعد جولات مختلفة في مهرجانات عدّة. الاشتغالات السينمائية غير متشابهةٍ في أنماط معاينتها بيئات وأفراداً، وفي سرد تفاصيل، وتصوير حالات.

الموضوع مهمّ (أزمة النفايات اللبنانية، وما يُحيط بها من فسادٍ سياسي ومالي، وغياب مواجهة شعبية فاعلة)، لكنّ المعالجة المتكاملة ناقصةٌ ("كوستا برافا" للّبنانية منية عقل)، من دون أنْ يحول نقصانها دون أهمية العنوان الأساسي للحبكة. العائلة ـ المُكوَّنة من زوجين (صالح بكري ونادين لبكي) وابنتيهما (سيانا وجيانا رستم تؤدّيان دور الابنة الصغرى، وناديا شربل تؤدّي دور الابنة الكبرى) والجدّة والدة الأب (ليليان شكري خوري) ـ ترفض الانصياع لواقعٍ مُشبع بفسادٍ وسطوة سلطات غير آبهةٍ بأحدٍ أو بشيء، ولجوء أفرادها (العائلة) إلى ريفٍ يبتعد عن المدينة، نوعٌ من هروبٍ واستسلام لمشيئة القوّة والبطش، قبل أنْ تُلاحقهم النفايات إلى آخر بؤرة نقاءٍ في بلدٍ منهار. النزاع اليومي يكشف، تدريجياً، سيرة العائلة، وصولاً إلى تمزّقاتٍ داخلية، وإنْ تكن واضحة، فالنهاية ملتبسةٌ.

نزاع طائفي ـ مذهبيّ تعيشه بغداد، شتاء 2006، تختاره العراقية ميسون الباجه جي نواة حكايةٍ، تنفتح على مرارات وعنفٍ وانكساراتٍ وخيباتٍ، وسعي إلى خلاصٍ غير مؤكّد، وبقاءٍ محفوف بخطر موتٍ يتجوّل بين الناس والأبنية. "كلشي ماكو" يلتقط أحوال ذاك النزاع، بل نتائجه اليومية على أفرادٍ، يعيشون قهراً، فيحاولون تأقلماً، ويريدون ضحكاً يشوبه ألمٌ وخيبات. أسئلة يطرحها الجميع بشكلٍ غير مباشر، أبرزها ثنائية الهجرة ـ البقاء، والعائلة حاضرةٌ في أكثر من منزلٍ، والتمزّقات التي تُهشّم المدينة، تتسلّل بدورها إلى داخل تلك المنازل/العائلات، صانعةً آثاراً تنكشف بأشكالٍ مختلفة.

عنف "النكبة" (1948)، الذي يخترق بلداً وناسه، يُسبِّب انفصالاً بين أب (أشرف برهوم) وابنته الوحيدة (كرم طاهر)، في "فرحة" للأردنية دارين ج. سلّام. العائلة غير حاضرةٍ كلّياً، فالجنود الصهاينة يُثيرون اضطراباتٍ تحثّ فلسطينيين كثيرين على حمل السلاح (الأب)، أو الهروب، أو الاختباء ريثما تنتهي تلك الأحداث (الابنة)، التي ستكون تأسيساً دموياً لخرابٍ متواصل. البداية مستلّة من تفاصيل عادية، عن أبٍّ يريد تزويج ابنته، الراغبة في إكمال تعليمها في المدينة، والعمّ (علي سليمان) يحاول إقناع شقيقه بتلبية تلك الرغبة. الحرب تُبدِّل كلّ شيءٍ، وتصنع من الابنة امرأة أنضج وأجمل وأعمق في مواجهة الموت المحيط بها، بعد أنْ تفصلها عن والدها، الذي لن يعود.

هذا كلّه غير حاضرٍ في عائلتي "بين الأمواج" للمغربي الهادي أولاد مهند، و"أطياف" للتونسي مهدي هميلي. وقائع يومية يعانيها كثيرون، تتحوّل إلى جوهر حكايتين، عن عائلتين تشهدان تحطّماً داخلياً، بعد إصابة الأب بمرضٍ يعطبه، فتتعطّل العائلة (بين الأمواج)؛ وبعد سقوط الأمّ في فخّ ذكورية متسلّطة وجاحدة، فتزداد تمزّقات العائلة (أطياف). المرض لعينٌ، يُحوّل رجلاً، مليئاً بضحكٍ وحبٍّ وانشراح، إلى آلة جامدة، تعجز عن التحكّم بالجسد، فتبدأ الروح بالتحلّل (بين الأمواج). حاجة أمٍّ إلى دعم مديرها من أجل ابنها تضعها في دائرة الانحلال الأخلاقي، لاتّهامها بممارسة الدعارة (أطياف).

 

 

المرض يعرّي أحوالاً، ويكشف ذكرياتٍ، ويروي سِيَراً، ويفشي مخبّأ، ثمّ يحلّ موتٌ، فتبدو العائلة كمن يبدأ لحظة جديدة، لن تكون مهمّةً معرفة صُورها ومساراتها، بقدر ما تكمن الأهمية في إيحاء إلى نوعٍ من تصالحٍ (بين الأمواج). خروج الأمّ من السجن، بعد حكمٍ عليها بتهمة، بريئة هي منها، يدفعها إلى عيش أهوالٍ في اجتماعٍ ذكوري خانق، لتسلّطه وقسوته وعنف تعامله مع المرأة، والعيش يترافق مع بحثٍ عن ابنٍ، يغرق في عالم المخدرات والدعارة واللواط، بينما الأب سكّير، يبحث ـ في أوهامه وعالمه المنغلق والضيّق، عن ابن غائبٍ (أطياف).

متاهة الأب، وبحثه ـ الضمني الصامت والقاسي في ذاته المنكسرة ـ عن ابنٍ غائبٍ (أطياف)، تُشبه ـ إلى حدّ كبير ـ "جنون" ابنٍ يصرخ، بين حينٍ وآخر، باسم والدته المختفية، موتاً أو غياباً، في بغداد الغارقة في عنف طائفي شديد، وفرْض حظر تجوّلٍ ليليّ، واحتلال أميركي (كلشي ماكو). الموت واحدٌ، وإنْ تكن أشكاله مختلفة. الأب عالقٌ في موت ابنٍ، والابن ضائعٌ من دون أمّه، ومع أبٍ سكّير أيضاً. القسوة واحدة، فسطوة اجتماعٍ، بتقاليده البائسة، لن تكون أقلّ تخريباً من حربٍ ونزاعٍ طائفيّ واحتلالٍ أميركي.

السطوة والقسوة تُشبهان فساداً لبنانياً (كوستا برافا) وبطشاً إسرائيلياً (فرحة)، يتمثّل الأول في انتشار النفايات في محيط منزل عائلي، يعكس (الانتشار) شيئاً من فساد سلطة (هناك رئيسٌ للجمهورية، وخطابٌ له، ومسؤولون رسميون، أو ربما غير رسميين)؛ ويظهر الثاني في أصواتٍ، كما في معاينة حسّية لفرحة (كرم طاهر) نفسها، التي تُشاهد، عبر ثقبٍ في جدار، بعض ذاك البطش، الذي تعيشه في حصارها في قبو مغلق، وفي لحظة خروجها إلى تبدّلات تاريخٍ وحياةٍ.

تغلب السينما، في مواضع عدّة من تلك الأفلام. عفاف بن محمود (أطياف) تمتلك ملامح تلك المرأة/الأم، التي تجهد من أجل ابنها، فتقع في المحظور الذكوريّ، ما يحعلها تتحوّل من أمّ طيبة إلى امرأة تريد ابنها، وإنْ تميل أحياناً إلى الانتقام، عبر علاقاتها الصدامية مع الرجال. "بين الأمواج" يستند إلى أسلوب مبسّط في صُنع متتالياته المشهدية، بعيداً عن تضخيم ما فيه من ميلودراما مطلوبة لنصٍ يروي وقائع عيشِ عائلةٍ، تكاد تنهار كلّياً بسبب مرض الزوج/الأب، وموته. ما تصنعه ميسون الباجه جي، في "كلشي ماكو"، يدعو إلى تأمّل هادئ في صخب الموت والعنف والتشرذم والخوف والانهيار، بفضل سلاسة توليفٍ (ألكسندر دولو)، يمنح الحكايات المختلفة، المتداخلة في ما بينها أيضاً، مساحات تُعينها على قول المبتغى، والحثّ على التفكير والشعور به.

المساهمون