السينما أهمّ لكنّ السلوك معضلة أخلاقية

السينما أهمّ لكنّ السلوك معضلة أخلاقية

02 اغسطس 2023
رومان بولانسكي: لا شفاعة لمن تُنشئ ضحيتُه صداقة معه (آدام نُرْكُفيتش/Getty)
+ الخط -

 

واضحٌ أنْ لا شيء يُمكنه تغيير نمط حملةٍ كهذه، فاختيار فيلمٍ لمخرجٍ متّهم، قبل أقلّ من نصف قرن أو منذ أعوامٍ عدّة، باعتداء/تحرّش جنسي، دافعٌ إلى حملةٍ، يظنّ القائمون/القائمات بها أنّ لديهم بفضلها قدرة على ضغوطٍ تؤدّي إلى سحب الفيلم، رغم أنّ مؤسّسات سينمائية تتراجع عن دعوة المخرج، تفادياً لصدامٍ ربما يحصل، أو تخفيفاً من حدّة توتر وغضبٍ.

والحملة، إذْ يُراد لها مزيدٌ من تشويهٍ وتذكير بجُرم، تتجاهل أحكاماً قضائية تُبرّئ المتّهم، لعدم كفاية الأدلّة مثلاً، أو واقعاً مختلفاً، "تتصالح" فيه الضحية مع "جلّادها"، بعد إسقاطها الدعوى القضائية ضدّه.

الاعتداء والتحرّش الجنسيان مرفوضان كلّياً. هذا موقف أخلاقي أولاً، يسبق كلّ حكمٍ قضائي، أيّاً تكن نتيجته. التعامل الذكوريّ مع المرأة مرفوضٌ من دون تردّد. إخضاع المرأة لنزوات الرجل، لامتلاكه سلطةً ونفوذاً، بشعٌ للغاية، ومنبوذٌ كلّياً. هذه مسألة غير محتاجة إلى فضائح، تؤدّي إلى حملاتٍ نسائية/نسوية، لالتزامها. استغلال منتج أو مخرج أو ممثل موقعاً سلطوياً له، يتمثّل في سطوة الشركة/الاستديو، أو منصب الإخراج ومفاتيح الشهرة التي يملكها المخرج، أو "نجومية" يظنّ صاحبها أنّها تُتيح له أنْ يفعل ما يشاء عندما يريد؛ استغلالٌ كهذا، الحاصل كثيراً في صناعة السينما، يتطلّب أفعالاً ميدانية تحمي المرأة منه، وهذا يحتاج إلى نقاشٍ آخر، مطلوب وضروري، وهادئ بالتأكيد، لا أنْ يكون صاخباً، كصخب حملات نسائية/نسوية "تُشوّه" حقّاً ومطلباً أحياناً، بدلاً من تحقيقهما.

إعلان الإدارة الفنية لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي (لا موسترا)" اختيار 3 أفلام جديدة لـ3 مخرجين، في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023)، متّهمين باعتداء/تحرّش جنسي، دافعٌ إلى تنشيط حملةٍ كهذه، رغم أنّ حكماً ببراءة اثنين منهم صادرٌ في أوقاتٍ سابقة، ورغم أنّ ضحية الثالث متصالحةٌ معه، بعد إسقاطها الدعوى ضده. وودي آلن (Coup De Chance) ولوك بيسون (Dogman) "بريئان"، قضائياً على الأقلّ. رومان بولانسكي (The Palace) غير قادر على العودة إلى الولايات المتحدّة الأميركية منذ سنين مديدة، "لأنّ قاضياً واحداً في لوس أنجليس يضطهده"، بحسب ألبرتو باربيرا، المدير الفني لـ"لا موسترا"، قبل 4 أعوام، بعد حملةٍ مشابهةٍ إثر اختياره "إنّي أتّهم" لبولانسكي ("سكرين دايلي"، 26 يوليو/تموز 2019).

 

 

يُضيف باربيرا، في الحوار نفسه، أنّ هناك 50 عاماً على الجريمة (إنّها 42 عاماً حينها، فالفعل الجُرميّ حاصلٌ في 10 مارس/آذار 1977)، والضحية (سامنتا غايلي، 16 عاماً ليلة الفعل) مُسامحةٌ إياه لاحقاً، بل أنّها تُنشئ علاقة صداقة معه، "والآن، هي من تطالب بإيقاف هذا الاضطهاد (الموجّه ضده)". تمسّكه بقراره عرض الفيلم ناشئ من قناعةٍ لديه بضرورة "التفريق بين الرجل والفنان"، و"إلا ستصيبنا اللعنة". يقول إنّه ليس قاضياً، لكنّه يعرف تماماً أنّ بولانسكي "أحد صانعي السينما العظماء الباقين في السينما الأوروبية، وبالتالي في العالم"، وأنّه صاحب "روائع ـ علامات في تاريخ السينما".

نقاش "التفريق بين الرجل والفنان" غير محسوم عند كثيرين/كثيرات. "عظماء" في شؤون مختلفة، تُفيد البشرية وتَقدّمها، وترافق الحياة وتمنحها أدوات تطوّر ومعرفة ووعي، وتصنع فنوناً تُفكّك مسائل فرد/جماعة وتعاينهما، وتُعرّي ما فيهما من أعطابٍ وانهيارات، أو تكشف نافعاً وحسناً؛ "عظماء" كهؤلاء متّهمون بديكتاتورية في العمل، وتحرّش/اعتداء جنسي في الحياة، واستغلال فردٍ لإشباع غريزة مريضة، يعانيها كثيرون/كثيرات، لكنّ معظمهم/معظمهنّ متمكّن من ضبطها أو التغلّب عليها أو قمعها. لكنْ، هل تُنسى أعمالهم/أعمالهنّ؟ هل تُرفض وتُحارَب، فقط لأنّ أفعالاً منبوذة يرتكبها أصحابها؟

يستحيل نبذ أفلام بولانسكي وآلن وبيسون (وغيرهم) بسبب "الرجل" الذي فيهم، وإنْ يكن "تصرّفٌ" في هذا "الرجل" قميئاً ونافراً ومرفوضاً. النقاش النقدي لاشتغالاتهم غير إيجابيّ إزاء أفلامهم كلّها، وهذا عاديّ. السجال الأخلاقي لتصرّفاتهم حقٌّ، كاللجوء إلى القضاء وإظهار إثباتات تُدين. عدم البراءة غير مانعٍ التمتّع بأفلامٍ من دون غيرها، وغير دافعٍ إلى شطبها من ذاكرة الفنّ السابع وحكاياته. مقاطعة إنجازاتهم حقٌّ أيضاً لمن يرفض قبول واقعٍ متبدّل منذ سنين (بولانسكي)، ولمن ينتفض على حكم براءة (آلن وبيسون). لكنّ التحريض على معاملة هؤلاء كما يريد المحرّضون/المحرّضات، يُسقط عن المسألة جانبها الأخلاقي، ويزيد من حدّة القمع والإلغاء والرفض والتقوقع في قوالب مغلقة. المحرّضون/المحرّضات، بسلوكٍ كهذا، يبدون كأنّهم/كأنهنّ ينفّذون (ولو مَجازاً) قول بنجامن فرنكلين: "انضم إلينا، وإلا فالموت حليفك".

رغم تفريقٍ واضح لديّ بين سينما "يُبدعها" هؤلاء وغيرهم، و"الرجل" الذي فيهم، الذي له تصرّفات منبوذة كتلك المتّهمون بها وإنْ مع براءةٍ ومصالحة، أرى المسألة مفتوحة على نقاشٍ، يُفترض به إنتاج آلياتٍ عملية ومنطقية لحسمها، إنْ تكن هناك إمكانية لحسمها. أنْ يُسجن أحد هؤلاء بأي تهمةٍ، يجب إثباتها بأدلة واضحة، لن يحول دون تمتّعٍ بأفلامٍ لهم. المشكلة الأخرى كامنةٌ في سؤال عن مدى تمكّن القضاء من إثباتِ تهمةٍ "مائة بالمائة": كم من متّهم مُدان بجُرم، تظهر براءته لاحقاً؟ وبعض المتّهمين يُعدَمون، وهذه أسوأ المساوئ.

المساهمون