السلم والمقام و"صرخة من القطب المتجمّد"

السلم والمقام و"صرخة من القطب المتجمّد"

16 مايو 2021
القطعة من تلحين وجدي أبو ذياب (زينب مواسي)
+ الخط -

 "صرخة من القطب المتجمّد" عنوان مقطوعة موسيقية للمؤلف اللبناني وجدي أبو ذياب، لا تتجاوز مدتها الخمس الدقائق. في الوقت نفسه، تجمع، وفي كُلّيتها، بدءاً من اختيار العنوان، مروراً بالتأليف والإنتاج، وصولاً إلى اختيار الـ"يوتيوب" منصّة عرضٍ لها، كثيراً من مظاهر الإنتاج الموسيقي الحديث، علاوة على كونها استمراراً لمسعى صار له ماضٍ قريب، في سبيل دمج صوتيّ للتراث بالحداثة، أملاً بالقدرة على التكلّم بلغة عالمية يطرب لها الجميع، عساها لا تُغرّب أحداً ولا تُشرّقه.

العنوان في الأصل للقصيدة التي نظمها الشاعر السوري شادي صوان، إذ تُشكّل عمود العمل الفقري. نصّها، بحسب وصفٍ أتى على شكل شرح مقتضب باللغة الإنكليزية، أُرفق بمقطع الفيديو المرفوع، يصف الحياة كمُعتقل مجازي يسبق الولادة ولا ينتهي إلّا بالموت؛ رفضٌ للتدجين العقائدي الممنهج، أو "التثليج" على حدّ تعبير الأبيات، وإن أتى ذلك، على الموضة الراهنة، بصورة مُمعنة في العمومية، تخفي الدلالة السورية الخاصة تحت بساط اليسار التقدمي الكوني الجديد.

من الناحية الشكلية، يعتمد العمل على التقابل حدّ التوازي، مع بعض بُرَه التقاطع آخرها عند الختام على عتبة السيكا، بين شعر فصيح يُغنيه أحمد الخير بأسلوب التوشيح، مُلصقاً كـ كولاج Collage على قماشة رسم Canvas، يلوّنها ثلاثي آلات وترية، كمان وفيولا وتشيلّو سُجّل بقوس كل من ماريو راحي وشربل بو أنطون وجنا سمعان، إضافة إلى آلة بيانو تعزف عليها ليانا هاراتيونيان.

سيُمهّد رباعي البيانو Piano Quartet الغناء ويوصل بين مقاطعه، وذلك بكتابة مركبة خطيّة Linear، مستوحاة من الحشوة الصوتية، أو ما يُسمّيه الموسيقيون الشرقيون "اللازمة"؛ حيث يقوم عازفو الفرقة أو التخت بسد الصمت عن طريق زخرفة لحنية، أشبه بالتذييل أو التعليق، غالباً ما يوكل إلى آلات الكمان، تلي صوت المطرب مباشرةً إثر انتهائه من غناء إحدى الجمل.

أما من ناحية البنية، فلا يعتمد المؤلف أيّ قالبٍ بالمعنى التقليدي، أو الكلاسيكي، كعرض فكرة أو فكرتين، ثم تطويرهما درامياً بالمعالجات الهارمونية والإيقاعية المختلفة، ومن ثم استعادتهما عند الخاتمة بأنماط تنوّعت على مسار تطوّر الموسيقى الكلاسيكية، إثر مرورها بحقب عدّة ومدارس متعددة. من جهة أخرى، له تصميمٌ أقرب إلى الارتجال المدوّن، وإن بدا متماسكاً نسبياً، ذا سرديّة أمكن تعقّبها.

تُشكّل القِطَع الآلية وتُوزّع على هيكل القصيدة المُغنّاة، مستمدّة تناسقها واتّساقها من تكرار بعضها. وفي الوقت نفسه، العبور  بالبعض الآخر بين المقاطع الغنائية عن طريق التهيئة أو المفاجأة، وذلك باستعمال لغة تعبيرية مُسهبة في استعارتها طرق عزف ما بات يُعرف بالموسيقى الجديدة Neue Musik وتقنيّاتها الموسعة Extended Techniques كصفع جسم الآلة بالقوس أو زحلقة الأصابع على الأوتار، بُغية إصدار مؤثرات صوتية لا تحمل  بالضرورة أي نغمات واضحة.

تبقى المفردة الأبرز من بين مفردات لغة العمل التعبيرية هي هرمنة الموسيقى العربية؛ والهرمنة هنا تعني الجمع بين أكثر من نغمة، تُعزَف معاً في حالٍ من الانسجام في آن واحد، لتُسمع كما لو أنها صوتٌ واحد، أو ما يُدعى بالفاصلة Interval. 

المشكلة تكمن في أن الانسجام أو الهارموني Harmony هو مجال تأليف موسيقي كان قد نشأ وتطور في الغرب نهايةَ العصور الوسطى، يعتمد سلالم موسيقية، سوِّيَت الأبعاد بين نغماتها بحلول فيزيائية ثابتة لتغدو قابلة للدمج، فتستسيغها الأذن البشرية، إن هي تناهت إليها مُجتمعة.  

بينما الموسيقى العربية، أو الشرقية، حافظت على خصوصيتها المقامية أحادية الصوت، بحيث إن أبعاد النغمات في ما بينها ليست ثابتة مطلقة وإنما متغيرة نسبية. وعليه، يصعب جمعها عمودياً في ائتلاف سائغ. هكذا، أصبح الجدل النظري والعملي حول قضية الهرمنة في الموسيقى العربية على امتداد القرن الماضي والحالي، سواءً لجهة الاستحالة أم الإمكان، العنوان لدخول آخر للعرب الحداثة، هذه المرة من بوابة الموسيقى.   

في أوّل الحقبة الما بعد كولونيالية، عمد الملحنون في مصر في انفتاحهم الحداثوي إلى تجنّب هرمنة البُعَيد (أو الربع تون)، واكتفوا بالتجاور من دون الالتحام بين مقاطع غربية الطابع، سلّمية هارمونية اللغة التعبيرية، وبين مقاطع شرقية طربية مقامية أحادية النغمة والصوت. أولى محاولات الإقدام على هرمنة المقام الشرقي لعلها أتت من الشام، من حلب تحديداً وعلى يد المؤلف وجامع التراث السرياني نوري إسكندر. بالأخص أعمالاً كان قد كتبها آخر عقدٍ الثمانينيّات من القرن الماضي، لثلاثي وتري، واثنين من نمط الكونشيرتو الكلاسيكي، واحد للعود وآخر للتشيلو.

بالقدر نفسه من الجرأة والشجاعة الفنية، وتأثراً ببيئة الدراسة الأكاديمية التي وفّرها وجود المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية في دمشق منذ التسعينيات، تقدّم اثنان متجايلان من طلبته يجدر ذكرهما هنا بابتكار حلول لهرمنة البُعيد الشرقي أو معالجته ضمن كتابة موسيقية متعددة الأصوات. كلاهما، بحكم آلة العود التي تدربا عليها، من بين المتأصلين في الموسيقى العربية، هما شفيع بدر الدين من السويداء، وحسان طه من حمص. بأثر رجعي، لعلّه لم يحن بعد، يمكن تسمية التجارب التي اشتغل عليها كلّ منهما بـ"مدرسة دمشق". 

استفادت "مدرسة دمشق" من سيرورة تطور الموسيقى الغربية. فالتيارات اللاسلميّة التي سادت أوروبا أول القرن العشرين، ناهيك عن الجاز المعاصر، كانت قد وسّعت من مجال الذائقة السمعية العالمية، لتغدو الأذن أكثر انفتاحاً أمام الائتلافات النغمية الأقل انسجاماً. من هنا، صار من الممكن قبول النشاز الناتج عن إدراج البُعيد الشرقي ضمن فاصلة، أو سلسلة من نغمات، وبالتالي تحويله إلى عنصر جمالي وواحدة من مفردات اللغة التعبيرية المعاصرة.

بما أنّ جميع تلك المجهودات الإبداعية تنضوي تحت ظلّ يُتعارف عليه بـ"الموسيقى الكلاسيكية" وتمددها الحديث والمعاصر، هي بذلك تُخاطب مستمعاً خاصاً له على الأغلب صفة نخبوية، قد تجعله أكثر تقبلاً لأن تكون الموسيقى مخبراً للتجربة الصوتية، وليس فقط ملهى للترفيه والتطريب. من شأن ذلك أن يُطلق حريّة المؤلِف في سبر سبل المعالجة الموسيقية من دون الخشية من نفور الجمهور.

مع ذلك، أيّاً يكن من يستمع، حريّ بالموسيقى إن كانت خلّاقة حقاً، ألا تقتصر فقط على الحال المخبرية، وإنما أن تتوفر فيها أيضاً عناصر الجاذبية. لا يعني ذلك أبداً أن تتفادى النشاز وألّا تجرؤ على الخروج بالأذن البشرية من منطقة المألوف المريح، وإنّما أن تكون لها عمارة وأن تحمل رسالة. تأتي العمارة من حسن التصميم، والعُدّة التقنية، والأنساق الفكرية التي أخرجته. أما الرسالة فهي ذلك التوق الأول، الصادق والأصيل إلى البوح، الذي فجّر في الذات المؤلفة ضرورة التأليف.

المساهمون