الذئب جاك نيكلسون

الذئب جاك نيكلسون

09 مايو 2023
كبر جاك نيكلسون وأصبح عجوزاً (كيفن وينتر/ Getty)
+ الخط -

كبر جاك نيكلسون وأصبح عجوزاً. ها هي صوره الأخيرة توحي بالطيبة، والهرم؛ فعندما تكبر تفقد تفاصيلُ وجهك نضارتها، والأهم حرارة تعبيرها عنك، كأنك تشحب تدريجياً، كأن وجهك يودّعك.
تُظهر الصور الأخيرة التي نشرتها "ذا ديلي ميل" جاك نيكلسون بقميص برتقالي، على بدانة ظاهرة تذكرنا بمارلون براندو في سنواته الأخيرة، وهو ملهمه. قضى براندو آخر أعوامه مكتئباً، لا مبالياً، ومنسحباً من العالم، وكذلك يفعل نيكلسون الذي فقد ذلك البريق اللعوب، العدواني، الشرير، الذي كان يلتمع في عينيه.
في فيلمي Easy Rider في عام Five Easy Pieces ،1969 في عام 1970، وهما انطلاقته الحقيقية، يبدو أسطورة السينما الأميركية في القرن العشرين على خلاف ما انتهى إليه تماماً. دوراه فيهما يقدمانه بملامح ما ستصبح عليه شخصيته في أغلب أفلامه لاحقاً، كأن هذين الفيلمين منحاه البصمة التي لن يُعرف أو يُعرّف إلا بها: النزق والغضب المفاجئ، والشر الذي يندفع فيخرجه عن طبيعة الناس، ويُطلق حيوانه المختبئ تحت جلده، ليقدّم، وإن بدرجات مختلفة، النموذج المضاد لإنسان القرن العشرين الذي دجّنته المؤسسة واستعبدته.
قدم نيكلسون خلال مسيرته السينمائية، التي ابتدأت منذ كان في السابعة عشرة من عمره، عشرات الأدوار المذهلة، وحظي بمخرجين كبار من بينهم ستانلي كوبريك وميلوش فورمان ورومان بولانسكي وجون هيوستون. وكلهم وجدوا أنفسهم يتعاملون مع السيكولوجيا نفسها التي ظهر بها نيكلسون في فيلميه المشار إليهما سابقاً، رغم تعدد الأدوار التي أسندوها إليه، وهي سيكولوجية المتمرد، اللعوب والشرير.
ثمة فيلمان لا يتكرران في مسيرة نيكلسون، ولعلهما من أجمل أفلام القرن العشرين. الأول The Shining (إنتاج عام 1980)، من إخراج ستانلي كوبريك، وOne Flew Over the Cuckoo's Nest (إنتاج 1975)، من إخراج التشيكي ميلوش فورمان. في الأول، يبدو أداء نيكلسون أعلى من مستوى الفيلم، وهو عن كاتب يكلّف بإدارة أحد الفنادق فيصاب بما يشبه الجنون المفاجئ، ويلاحق زوجته وابنه بفأس لتقطيعهما قبل أن ينتهي في متاهة بوجه ذئب جريح وهائج.
الفيلم مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لستيفن كينغ، وقد أغرى نجاحه شركات الإنتاج لمحاولة محاكاته لاحقاً مع تنويع في القصة، فأُنتج عام 1994 فيلم بعنوان "ذئب" من بطولة نيكلسون وميشيل فايفر، من دون أن يصل إلى مستوى الفيلم الأول، وهو كما في The Shining يلعب على فكرة الشر الذي يتمظهر في صورة ذئب، والتي توحي بها ملامح نيكلسون في في فيلم كوبريك، كأن حيوان فرويد إذا جاز التعبير يثوي تحت جلد الإنسان، وإذ يغضب يمزقه ويندفع غريزياً للقتل.
أما الفيلم الثاني فهو One Flew Over the Cuckoo's Nest، وهو مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الأميركي كين كيسي (1935 - 2001)، وقد نقلها إلى العربية صبحي حديدي، وصدرت عام 1981 عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت ضمن سلسلة أشرف عليها إلياس خوري. وإذا كان أداء نيكلسون في The Shining أعلى من مستوى الفيلم؛ فإن أداءه في الفيلم الثاني أعلى من الرواية نفسها على تعقيد العلاقات بين العمل الدرامي والنص الأصلي، خاصة أن طبيعة العمل الأدبي تمنح المتلقي مساحة وخيالاً أوسع في بناء الشخصية خلال القراءة، على خلاف التلقي في حالة الدراما المحكومة بعناصرها، ومنها الممثلون، ما قد يكبح خيال المتلقي ويقصره على الممثل الذي يقدم الدور. ورغم ذلك، فإن أداء نيكلسون في الفيلم تفوّق، في رأي كاتب هذا المقال على الأقل، على خيال تلقي الشخصية في الرواية، وهذه حالة نادرة إذا صحّت.
جاك نيكلسون (ماكميرفي) الذي يدخل المصح النفسي لامبالياً ومستهزئاً ويكاد يعصف به، بسيجارة مارلبورو في زاوية فمه، ينتهي بأن يُخضَع بمنهجية وبقسوة ليتمنى الموت، بل ليندفع إليه لكي يحافظ على حريته بأن يكون نموذجاً مضاداً للمؤسسة، بل المؤسسات كلها، وتبدو نهاية الفيلم بالغة الكآبة؛ فعلى أحدهم أن يقتله لأنه يحبه ولا يريد لنموذجه أن ينكسر.
أين ماكميرفي، الذي لا يستسلم أبداً ويقاوم حتى النهاية، من جاك نيكلسون وهو في عقده التاسع ويقف في شرفة بيته ببطن متكرّش وشعر منفوش ونظرات، وقد أصيب بفقدان الذاكرة كما قيل منذ سنوات؟ يا للكآبة!

دلالات

المساهمون