استطلاعات الرأي تفشل مجدداً في قياس شعبية ترامب... هامش الخطأ يتوسّع

Philadelphia Awaits Election Results
06 نوفمبر 2020
+ الخط -

صباح الأربعاء، وبعد ساعات من إقفال صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية، انتظر الأميركيون ومعهم العالم "الموجة الزرقاء"، وانتظروا الفوز الكبير للمرشح الديمقراطي جو بايدن، وتقهقر الحقبة الترامبية، في انتخابات تُخرج الرئيس الأميركي الأكثر إثارة للجدل في التاريخ، من البيت الأبيض. لكن الموجة لم تأتِ، بل على العكس بدا السباق إلى الرئاسة متقارباً بشكل لم تعرفه الدورات الانتخابية السابقة. 
رغم تقدّم جو بايدن، واتجاهه نحو الفوز بالسباق الرئاسي، فإن استطلاعات الرأي التي أجرتها بشكل أساسي شركة Edison Research (تقوم بإحصاءاتها نيابة عن مجموعة من المؤسسات الإخبارية) فشلت في التقاط نبض الشارع الأميركي، وعجزت عن ترجمة حجم ترامب وتأثيره الشعبي وحجم قاعدته الانتخابية.
فما الذي حصل؟ الأرجح أن لا شركات البحث والإحصاء، ولا وسائل الإعلام قادرة على تفسير سبب هذا الفشل الجديد الذي يعيدنا إلى فشل شبيه في الاستطلاعات التي سبقت انتخابات عام 2016، عندما ضرب دونالد ترامب بكل الأرقام عرض الحائط، مطيحاً بمنافسته هيلاري كلينتون.
 فهل حان وقت نعي صناعة وعلم استطلاعات الرأي التي تحوّلت في العقد الأخير إلى ركيزة أساسية في الحياة السياسية والتحليلات الإعلامية؟ وهل يمكن أن تنجو هذه الصناعة من أزمة ثقة ثانية؟

هل حان وقت نعي صناعة وعلم استطلاعات الرأي التي تحوّلت في العقد الأخير إلى ركيزة أساسية في الحياة السياسية والتحليلات الإعلامية

بحسب صحيفة "واشنطن بوست" فإن الهجوم على هذه الشركات وعلى نتائج إحصاءاتها غير مبرّر في هذا الوقت المبكر، وقبل إعلان النتائج النهائية والرسمية للانتخابات، "هامش الخطأ الذي وقعت فيه حتى اللحظة هذه الأرقام، هو هامش مقبول. الجمهور يتعامل مع الاستطلاعات على اعتبارها تنبؤاً بالمستقبل، وهذا أمر خطير". وتشبّه الصحيفة طبيعة كل الأبحاث التي تحاول ترجمة وفهم الرأي العام بـ"بنادق الرشّ" لا "بنادق القنص"، "فهي لا تملك دقة بعيدة المدى، وتنتج عنها مجموعة احتمالات، لا احتمال واحد دقيق".
قد يكون ذلك صحيحاً إلى حدّ بعيد، لكن جملة الأخطاء التي وقعت فيها الإحصاءات هذه المرة، عكست ما قد يكون ثغرة في العينات المختارة أكثر منها هوامش خطأ مقبولة. ففي فلوريدا، أظهرت الأرقام بشكل متكرر في الأشهر الماضية تقدّم بايدن على ترامب بـ2.5 نقطة، لكنها كانت الولاية التي فاز فيها ترامب منذ مساء الثلاثاء. كذلك الأمر في بعض مقاطعات ميشيغن التي اعتبرتها الأرقام محسومة لصالح المرشّح الديمقراطي بفارق كبير عن ترامب، لكن العكس هو الذي حصل، فزاحم ترامب خصمه على الفوز بالولاية حتى النهاية. في أوهايو كذلك، رجحت الاستطلاعات فوز ترامب فيها بفارق 0.8 نقطة عن بايدن، إلا أنّ النتيجة حسمت في الليلة الأولى كذلك، بعدما تقدّم ترامب بحوالي 8 نقاط. تكساس كررت فشل الاستطلاعات كذلك، ففاز فيها ترامب بفارق 6 نقاط تقريباً، بينما رجحت شركات البحث فوزه بفارق نقطة واحدة كحد أقصى. وفي وسكونسن، خسر ترامب الولاية بفارق نقطة واحدة، وليس 17 نقطة حاسمة بحسب الاستطلاعات.

الثغرات في الأرقام تنطبق بشكل مشابه على انتخابات مجلس الشيوخ التي تشهدها بعض الولايات، فالموجة الزرقاء كانت تفترض أن يكتسح الديمقراطيون المجلس، لكنهم حتى الآن لا يزالون عاجزين عن حسم الأكثرية لصالحهم.

هذا الفشل لم يكن حكراً على شركات الإحصاء العامة التي تزوّد وسائل الإعلام بالأرقام، بل كذلك شركات الاستطلاع الخاصة التي تلجأ إليها الأحزاب. فبحسب مجلة "بوليتيكو" أغلب الأرقام التي حصل عليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي كانت تشير إلى فوز شبه حاسم لبايدن. لكن مع مرور الساعات وعجز المرشح الديمقراطي عن حسم المعركة الرئاسية، يطرح الباحثون أسئلة حول ما إذا باتت أدواتهم الإحصائية معطلة وغير قادرة تحديداً على قياس حجم الدعم الشعبي لترامب. يقول مدير معهد استطلاعات الرأي في جامعة مونماوث باتريك موراي، للمجلة: "هذه المرة لا نتكلّم عن عدد قليل من استطلاعات الرأي التي أخفقت، ما حصل في هذه الانتخابات نادر... يبدو أن اسم دونالد ترامب على بطاقات الاقتراع يجعل كل الإحصاءات تذهب في مهب الريح".
في جميع الأحوال، يعود نفس السؤال ليبرز تماماً كعام 2016: لماذا ظهرت هذه الثغرة في دورتين انتخابيتين متتاليتين، وفشلت في إعطاء تصوّر حقيقي عن تمثيل ترامب؟ قد يكون السبب مرتبطاً أولاً بالتعامل مع العيّنات المستطلعة كعيّنات علمية، وهو ما لا ينطبق على السلوكيات البشرية، تحديداً في الخيارات السياسية، وهي خيارت قد تتغيّر في لحظة عاطفية أو وطنية أو شخصية معيّنة. وتصلح هذه النظرية تحديداً في تقييم تعامل الأميركيين مع شخصية غير متوقّعة كدونالد ترامب. 

أغلب الأرقام التي حصل عليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي كانت تشير إلى فوز شبه حاسم لبايدن

في تعليق لصحيفة "نيويورك تايمز"، يقول الأستاذ الجامعي ومدير وحدة التصويت في جامعة مولينبيرغ في بنسيلفانيا كريستوفر بوريك: "تماماً ككل الملفات المرتبطة بترامب، قد تكون هناك قواعد مختلفة عند إجراء استطلاع حول انتخابه (...) 
لدينا حتى اليوم تجربتان مع الرجل، وفي المرتين تسير الأمور بطريقة مختلفة وغير متوقعة".
إلى جانب طبيعة ترامب، وتأثيره على الأميركيين، فإنّ عاملاً آخر يبقى خارج الحسابات لأسباب كثيرة، وهو "الناخبون الخجولون". هؤلاء ينتخبون ترامب، لكنهم لا يصرّحون عن ذلك لاستطلاعات الرأي ولا حتى للمقربين منهم، خوفاً من الأحكام الأخلاقية التي قد تلحق بهم، بسبب مواقف ترامب من ملفات كثيرة، بينها العنصرية، والنساء، وفيروس كورونا، والقضايا البيئية، والمثلية الجنسية. الأغلبية الساحقة من هؤلاء تتألف من الرجال البيض من حاملي الشهادات الجامعية. بحسب الاستطلاعات، فإن أكثرية هؤلاء كانت ستمنح أصواتها لبايدن، في تكريس لنظرية عام 2016 أن الرجال البيض من غير حاملي الشهادات هم من أوصلوا ترامب إلى البيت الأبيض، مقابل تصويت نظرائهم من خريجي الجامعات لصالح هيلاري كلينتون. لكنّ شركة "مورنينغ كونسلت" المتخصصة بتحليل البيانات، كشفت أن "الناخبين الخجولين" يعلنون عن ميلهم لانتخاب ترامب، عند استطلاعهم عبر الهاتف، بينما يترددون بالتصريح بذلك عند استطلاعهم بشكل شخصي ومباشر، خوفا من الضغط الاجتماعي. ورغم أنه لا أرقام واضحة عن عدد هؤلاء، لكن الأكيد بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، أن هذه الانتخابات ستعيد فتح نقاش حول تأثير هذه الشريحة على النتائج الانتخابية.

دونالد ترامب، بدوره، هاجم هذه الاستطلاعات ملقياً باللوم عليها ومتهماً إياها بالتسبب في خسارته لبعض الولايات الجمهورية تاريخياً

دونالد ترامب، بدوره، هاجم هذه الاستطلاعات ملقياً باللوم عليها ومتهماً إياها بالتسبب في خسارته لبعض الولايات الجمهورية تاريخياً. في حديث يوم الخميس في البيت الأبيض، رأى أن الاستطلاعات كانت "تدخلاً في الانتخابات بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة"، زاعماً أنها أثّرت بشكل مباشر على الناخب الجمهوري، بعدما أقنعت الرأي العام بأن بايدن متقدّم بشكل كبير، "وهو ما جعل بعض ناخبينا يجلسون في بيوتهم... وقلصت قدرتنا على جمع الأموال للحملة الانتخابية".
في مقال لها قبل يومين تستعيد مجلة "بوليتيكو" مقتطفاً من كتاب The Pollesters (المُستَفتون/1949) لأستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا الأميركية ليندسي رودجرز. يقول هذا الأخير إن فكرة استطلاعات الرأي السياسية غير صالحة، فهي طريقة علمية خاطئة هدفها قياس مفهوم لا يمكن قياسه، وهو متغيّر بشكل مستمر. وبحسب رودجرز، القيم والمواقف والآراء ليست ملموسة، وتتطوّر سريعاً في الأيام والأسابيع التي تسبق الانتخابات، وكذلك في السنوات التي تفصل بين انتخابات وأخرى، وبسبب هذا التغيير المستمرّ تقام الانتخابات في الدول الديمقراطية كل 4 أو 6 سنوات.
اليوم ومع فشل استطلاعات الرأي للمرة الثانية على التوالي، يبدو أن محاولة الإمساك بآراء الناخبين، وتأطيرها في أرقام ومواقف محددة، أثبتت عدم جدواها، وهو ما قد يفتح الباب أمام إعادة نظر جديدة بكل هذه الصناعة، وتأثيرها على الإعلام وعلى الحياة السياسية.

المساهمون