أفلام بيالا في صالات فرنسا: "سيدوم الحزن إلى الأبد"

أفلام بيالا في صالات فرنسا: "سيدوم الحزن إلى الأبد"

02 اغسطس 2021
موريس بيالا: "آفة السينما أنّها لا تتقدّم" (ويليام كاريل/ سيغما/ Getty)
+ الخط -

 

تُعرَض في الصالات الفرنسية، في دفعتين (تبدأ الثانية في 4 أغسطس/ آب 2021)، نسخ مُرمّمة من الأفلام الـ10 الطويلة لموريس بيالا (1925 ـ 2003)، ما يُشكّل مؤشّراً جديداً على تواصل الاهتمام المتجدّد بمنجزه، بعد تنامي تأثيره البيّن على مخرجين فرنسيين، في العقود الأخيرة، أمثال كاترين برييّا وكزافييه بوفوا وناومي لوفوسكي وداميان شازال وغيرهم، ممّن يعترفون أنهم يدينون بالكثير لرؤيته المتفرّدة، كما ممّن يُلاحَظ في أفلامهم آثار تأثّر واضح بلمسته (برونو دومون، كلير دوني).

 

لا للتكتلات السينمائية

لوهلة أولى، يبدو غريباً أنْ تنشأ مدرسةٌ، ملهمة ومزدهرة، عن أسلوب هذا المخرج الهامشي، ذي المزاج المتعكّر، الذي لا يتوانى عن إطلاق العنان لنوبات غضبه، والمناوئ للتكتلات، والمُعاكس بطبيعته لمعنى التيارات في السينما، وفي مقدّمتها "الموجة الجديدة"، التي لم تسلم من انتقاداته اللاذعة: "أنا لا أنتمي إلى عالم السينمائيين. لا أعرف. لكنْ، أكاد لا أجد شيئاً يجمعني بهم". فموريس بيالا، رغم أنّه يكبر أغلب رموز الموجة سنّاً ببضعة أعوام (يكبر غودار بـ5، وتروفو بـ7)، التحق بالسينما "الاحترافية" متأخّراً عنهم بعقد كامل، بعد مروره بتجربة ممارسة الرسم التشكيلي، مباشرة بعد تخرّجه من مدرسة فنون الديكور، ما يمثّل سبباً كافياً لتغذية ضغينة خفية إزاء كلّ ما يمتّ للموجة الجديدة بصلة.

رغم مُشاركته بلوحاته في معارض صغيرة، لم ينجح بيالا في أنْ يجعل من التشكيل وسيلة لملء حياته وكسب عيشه، فتوقّف عن الرسم بشكل حادّ عام 1946، ما شكّل قطيعةً جديدة طبعت، من دون شك، رؤيته بطبقة أخرى من الاحتداد والخيبة، أُضيفت إلى القطيعة "الأصلية"، التي شكّلها انفصاله عن والديه في طفولته، وتربيته بين أحضان جدّته، والتي تُفسّر كيف أنْ الطفولة، أو بالأحرى الصبيانية لدى البالغين أنفسهم، تظلّ من أهم لازمات أفلامه، إنْ لم تكن محرّكها الأول.

اشتغل بيالا لأعوام زائراً صحيّاً، ثم مندوب مبيعات لشركة "أوليفيتّي" للآلات الكاتبة، من دون أنْ يتوقّف عن التمثيل على خشبة المسرح، وإنجاز أفلامٍ في إطار الهواية، بفضل كاميرا اقتناها. لم يتمكّن من اقتحام عالم السينما، رغم أنّه اغتنم الفرصة التي أتيحت له بفضل مُنتج السينما المستقلّة، الأسطوري بيار برانبيرجي، بأفضل طريقة، مُحقّقاً "الحبّ موجود" (1960)، أوّل فيلم قصير له يُصوَّر في ظروف احترافية: محكية بضمير المتكلّم، غاية في الصدق والحساسية، عن ضواحي باريس أواخر خمسينيات القرن الـ20، وما يعتمل فيها من مظاهر التفاوت الطبقي، من دون أنْ يغفل التقاط نبض الحياة اليومية في أكثر تمظهراتها شعرية، مُطعِّماً إياها بذكريات طفولته، ما أعطى نغمة التقاط تمازج الحميميّ بالاجتماعي، التي لن تفارقه طيلة مساره.

انتظر إلى عام 1968 (43 عاماً) ليُنجز فيلمه الطويل الأول، "الطفولة العارية" (إنتاج فرنسوا تروفو)، عن سيناريو واقعي مستقى من دراسة ميدانية حول الرعاية الاجتماعية للأطفال المُتخلّى عنهم: يتناول محنة فرنسوا (10 أعوام)، وتنقّله بين الأسر المستضيفة بسبب سوء تصرّفاته، قبل أنْ يجد استقراراً نسبياً في حضن عجوز وزوجها. لكنّ تقلّبات طبعه تقوده سريعاً إلى اقتراف زلّة جديدة، تُفرّق بينه وبين أسرته المستضيفة، رغم حبّه لها (لازمة القسوة الظاهرة التي تخفي هشاشة الداخل وطيبته، مرة أخرى). ينتهي الفيلم على إيقاع رسالة مؤثّرة من فرنسوا إلى أمّه بالتبني، تُفصح عن نضج ملموسٍ، ووحدةٍ تعتصر القلب، سترافق نهايات أفلام بيالا، حتى المشهد النهائي المؤثّر من فيلمه الأخير Le Garcu، المُنجز عام 1995 (لقبٌ لا أحد يعرف معناه، كان بيالا يُطلقه على والده): يلهو طفل كثير الحركة خارج الحقل (تمثيل ابن المخرج، أنطوان)، فيما تنتحب الأم المغلوبة على أمرها بجانب الأب (نوعٌ من أنا أخرى لبيالا، يُجسّدها جيرار دوبارديو في رابع تعاون بينهما)، المُكبّل بالتباس المشاعر والخوف من الارتباط.

يبدأ موريس بيالا مُنجزه السينمائي بطفلٍ مُتخلّى عنه، ويُنهيه بطفلٍ محبوب من والديه إلى حدٍّ معيّن، ما يُشكّل رابطاً إشكالياً في مثلث حبٍّ مستحيلٍ، لا يفتأ المخرج يقلّبه ويراه من كلّ الجوانب، من عملٍ إلى آخر. "آفة السينما أنّها لا تتقدّم. كلّ شيء كان هناك، أو يكاد، منذ فيلمي الأوّل"، يُسِرّ بيالا بتحسّر.

 

عناد وتحدّ وصمت

بعد الإشادة النقدية بالفيلم الأول، يأتي النجاح الجماهيري الباهر مع الفيلم الثاني، "لن نشيخ معاً" (1972)، المقتبس عن كتاب من تأليف بيالا حول لعبة مدّ وجزرٍ لا تنتهي، بين مخرجٍ (جان يانّ) يتسم بشخصية بغيضة، من دون أنْ يمنعه ذلك من الإتيان بالحنوّ والرقّة في علاقته بالجنس الآخر، بين الفينة والأخرى، ومساعدته (مارلين جوبِر)، الصّهباء الخجولة والهشّة تكويناً وطبعاً. علاقة مُعقّدة، قوامها انجذاب ونفور يلهو بهما المخرج ببراعة لاعب سيركٍ يمشي على خيط الحياة الرفيع، بتقلّباتها، بين لحظات التأمّل والتوتر، وتتابع الخيبات، ومَشاهد الصمت، المُعبّر عن قلّة الحيلة، في السيارة، أو في غرف الفنادق البسيطة، ولحظات الصفاء الخاطفة على شاطئ البحر.

 

 

في الفيلم الموالي، "فاغرة الفم" (1974)، يظلّ المخرج وفياً لنبرة العناد والتحدّي، المتأصّلة في شخصيته، فيختار موضوعاً قاسياً وحساسيةً "مينمالية"، كنوع من "الانتقام" من نجاح فيلمه السابق، مُتسبّباً في إفلاس شركته الأولى "ليدو فيلم"، بعد الفشل المدوّي للفيلم في صالات السينما. يغرف مُجدّداً من تجربته الخاصّة، مُفصحاً عن أنّه من طينة المخرجين القلائل، الذين لا يمكن فصل حياتهم عن السينما التي يصنعون، وأنْ لا سبيل لفهم أيّ منهما إلاّ بإلقاء ضوء مستمدّ من الأخرى، مُنبرياً لقصّة معاناة والدته مع مرض السرطان، رفقة ابنها (فيليب ليوتار)، الحائر في تقلّبه بين النساء، وزوجها الذي يغرق شجنه في الشرب والشغب الجنسي العابر، حيث تحضر مرّة أخرى جمالية الزمن المنفلت من بين أصابع استحالة التعبير والمشاعر الحبيسة.

مشهد الحوار بين الأم وابنها، على نغمات الموسيقى الكلاسيكية، عن اختيارات الإبن في علاقاته العاطفية، وتعثّر الأم فجأة في لحظة ضعف تؤذن ببداية منحدر تدهور صحتها، ثم لقطة اندماج الإبن وأبيه مع المعزّين في نقاشٍ عن الزهور وخصائص كلّ فصيلة منها، بضع ساعات فقط بعد دفن الفقيدة، التي تقبض على خامة الحياة حين تأبى إلاّ أن تبثّ سحر استمرارها في صلب التجارب الصعبة، هذا كلّه يوضح القدرة المدهشة لبيالا على اعتصار ازدواجية الوجود بوجهيه، المرّ والحلو. "كلّ ما يمكن صنعه بضع لحظات كاملة، تتخلّل الفيلم. لا وجود لفيلم بلغ الكمال، رغم أنّ النّقاد يسعون دائماً إلى إيهامنا بإمكانية العكس".

عام 1978، يتوجّه بيالا إلى "لانس"، لتصوير "احصل على البكالوريا أولاً"، مُشركاً شباباً غير محترفين، طعّموا الفيلم بتجارب حية من معاناتهم من سوء فهم البالغين، وضيق الأفق، والبطالة المنتشرة بشمال فرنسا آنذاك. أنجز لوحةً تعبيرية عن هواجس فترة الشباب، والخروج من مُراهقة القُبل الأولى، ولثمات الحبّ العابر، إلى تحدّيات كسب العيش، على خلفية اجتماعية تشهد أولى بوادر العولمة (لاآدمية إجراءات المراقبة في الأسواق الممتازة). يصوّر الـ"جينريك" الخالد للفيلم متوالية من رسوم التلاميذ على طاولات الدراسة، بقلم الحبر الجاف، على خلفية كلمة من الدرس الافتتاحي، يلقيها أستاذ الفلسفة الذي يعبر حكي الفيلم، كشاهدٍ يُبشّر بوعد الحكمة التي يرى فيها المخرج، ربّما، البوصلة الوحيدة للإبحار، الكفيلة بإنقاذ الشبان من أمواج التيه المتلاطمة.

يُعيد بيالا زيارة مثلث الحبّ، مجدّداً، بمناسبة "لولو" (1980)، من زاوية الممثّلَين العظيمَين إيزابيل أوبير وجيرار دبارديو. معهما، تُشكّل لحظات الحبّ بينهما ذروة التعبير عن ثنائية الانجذاب والنفور في السينما، من خلال الحركات والنظرات والإيماءات والشمّ والضرب المتبادل. يلتقي بيالا مع روبيرت ألتمان في أنّهما يعطيان أهمية لكرونولوجيا العاطفة، أكثر من كرونولوجيا القصّة، فلا يتردّدان في حذف مَشَاهد أساسية لفهم توالي الحبكة، لفائدة مَشَاهد تتفجّر فيها الأحاسيس. لذا، يصعب التكهّن بمآل أفلامهما في وسطها. كما أنّهما يلتقطان بداية المَشَاهد في غمرة الحركة، ويبدوان كأنّهما يمدّان أمد التصوير إلى ما بعد انتهاء لعب الممثلين. "لا تقلقي، فلن نشاهد الأفلام العظيمة أبداً. جلّها تحدّث قبل نطق المخرج كلمة "حركة"، وبعد صراخه "اقطع""، تروي أوبير ما سمعته من بيالا ذات مرّة، قبل بدء تصوير أحد مشاهد "لولو".

هناك الكثير من اللطم والصفع والاشتباك بالأيدي في أفلام موريس بيالا، تبلغ ذروتها في "نخب حبّنا" (1983)، الذي يمثّل هو نفسه فيه دور أبٍ للمُراهِقة سوزان، التي تختبر حيرة الحب الأوّل، وتشقى لإيجاد طريقها في الحياة، والتي أدّتها ساندرين بونير في دورها الأوّل حين كانت تبلغ 15 عاماً، بعد اختيارها للدور بشكل مفاجئ، فيما كانت تحضر الاختبار كمُرافقة لأختها، فوقع المخرج تحت سحر نظرتها، التي لا تقيم وزناً لأي شيء، بما في ذلك ماضيه كمخرج معروف، وابتسامتها المشرقة التي تجد انعكاساً في ابتسامة المخرج نفسه، في مشهد الحافلة الرائع، حيث تختلط شخصية بيالا المخرج ـ العرّاب بشخصية الأب الحنون من داخل احتداده، ورقّة بونير الممثلة المبتدئة بهشاشة سوزان الباحثة عن ذاتها، في خلطة تشكّل إحدى السمات الأساسية لسينما بيالا.

 

ارتجالات وصدمات

تنشأ الحقيقة بموجبها عن احتكاك ما يجلبه الممثل مع صفات الشخصية في مرحلة أولى، قبل أن يقذف المخرج في التصوير بمكوّن ارتجالي (يعرف وحده سرّه) يخلّ بالتوازن الأوّلي، ويحمل المشهد إلى وجهة مجهولة، تتكشّف غالباً عن تفاعلها مع ما تمّ إعداده سلفاً: حقيقة عملية الخلق برمّتها. هذا ما حدث في المشهد الشهير، عندما يعود الأب ـ المخرج بعد غياب طويل، أثناء مأدبة عائلية، من دون أن يتمّ إخبار أي من الممثلين بذلك قبل بداية التصوير، فنرى في عيونهم مزيجاً من صدمة اقتحام المخرج لبلاتوه التصوير، وشعور شخصياتهم إزاء شخصية الأب الفظّ، قبل أنْ ينقل هذا الأخير المشهد إلى ذروة غير مسبوقة في تاريخ السينما، حين يشرع في تصفية حساب قديم (بالكاد يمزج بعض تفاصيله بحكي الفيلم) مع جاك (جاك فياشي، الذي يمثّل دور قريب الأسرة في الفيلم)، حول مقالٍ نشره في مجلة "سينما" كان يترأس تحريرها، يمنح كاتبه تنقيط 4 على 20 لأحد أفلام بيالا. "أجد نفسي فقط عندما تسوء الأمور".

 

 

يتحقّق الوصل مع النجاح الجماهيري، مُجدّداً، مع "بوليس" (1985)، حين يجد المخرج في داخله جرأة اقتحام فيلم النوع، عن طريق جرّه إلى عالمه، وليس العكس، إذْ تبدو الحبكة مجرّد ذريعة أخرى لاستكشاف مثلّث الحبّ، من زاوية الجريمة وعالم تجارة المخدرات. لكنّ الخلفية تظلّ التباس مشاعر الانجذاب للمحبّ، والنفور من سطوته. توتّر علاقة بيالا بريشار أنكونينا، الذي رفض العودة إلى البلاتوه إلاّ بعد أنْ يكتب المخرج رسالة اعتذار تُعلَّق إلى جانب برنامج التصوير اليومي (بحسب رواية سيرج توبيانا)، وصوفي مارسو، التي ذرفت دموع قهرٍ حقيقية أثناء التصوير، يُفصحان (التوتر ودموع مارسو) عن أسلوب الإخلال بالتوازن، ومحاولة دفع الممثلين إلى أقصى حالاتهم النفسيّة، بغية التقاط مشاعرهم العارية من كلّ وصفات التمثيل المستنزفة، والكليشيهات المكتسبة.

هذا سمّم علاقته بممثلين وتقنيين عديدين (عادةً ما يفضي عدم رضى بيالا على عمل مديري التصوير مثلاً إلى توالي الكثير منهم على بلاتوه فيلمٍ واحد)، وأدّى إلى قطع عميق مع من يغفلون حقيقة أنّ الرجل يدفع ثمن ذلك غالياً، حين يطلب منهم أقلّ مما يطلب من نفسه، وعندما لا يرضى حتى على أكثر أفلامه نجاحاً واكتمالاً، بحجة مشهدٍ ضعيف، أو أداء مرتبك هنا وهناك. لا يتوقّف عن لوم نفسه لعدم قدرته على "أنْ يكون في مستوى التحدّي"، جاعلاً من ذلك وقوداً لتغذية الرغبة في خوض تحدٍّ جديد، ولكنْ أيضاً مُسوّغاً لسوء مزاجه، وعدم حبّه لأفلام الآخرين، بمنطق "لا يهمّ إنْ كنتُ قاسياً على الآخرين ما دمت بالغ القسوة على نفسي".

حتى حفل تتويج "تحت شمس الشيطان" (1987) بـ"السعفة الذهبية" لـ"كانّ" (الدورة الـ40، بين 7 و19 مايو/ أيار 1987)، بدا كما لو أنه تحوّل، تحت سطوة اختلاط حياة بيالا بسينماه، إلى مشهد مقتطف من أحد أفلامه، قوامه صفير وسوء فهم وقبضات تحدٍّ وكلمات نارية، حين مضى يشقّ الصفوف بهدوء تحت صافرات الاستهجان، ممن كانوا يفضّلون أنْ تُمنح السعفة لـ"أجنحة الرغبة" لفِم فاندرز، أو "الأعين السوداء" لنيكيتا ميخالكوف. تسلّم بيالا الجائزة بقبضة مرفوعة، قائلاً جملته الشهيرة "إذا كنتم لا تحبّونني، فبوسعي القول إنّي بدوري لا أحبّكم". حدثٌ حجب ولا يزال، تحت ركام الكليشيه الإعلامي، فيلماً كبيراً مقتبساً عن رواية جورج بِرنانوس، يقتفي رحلة قسّيس شاب يصارع نزعة الإيمان الشمولي فيه، حين يواجه العجز أمام عقبات الحياة، المتمثّلة في القدر المأسوي للشابة موشيت، المقتبس في فيلمٍ بالعنوان نفسه لفرنسي عظيم آخر هو روبير بروسّون، في إشارة قدرٍ إلى كم أنّ المخرجَين يشكّلان وجهين لعملة واحدة، عمقها تأثّر كليهما بجمالية التشكيل، والدفع بالحرص على صدقية الخلق السينمائي ونقائه من كل الشوائب إلى حدّ الهوس.

فكرة لا شكّ في أنّ بيالا يدين بها إلى التشكيل، مدرسته الأولى التي يضعها في مرتبة أسمى من كلّ الفنون، حيث تصبح لمسة الرسام، في استعمال فرشاته، أبلغ حقيقة من كلّ معنى للحبكة أو الرسالة أو الموضوع.

هذا جوهر فيلمه ما قبل الأخير، والأروع في مسيرته، "فان غوغ" (1991)، الذي يُشكّل نوعاً ما عمله ـ الوصيّة، عن الأيام الـ67 الأخيرة من حياة العبقري الهولندي، في قرية "أوفير ـ سور ـ واز" الفرنسية، حيث ينجح مرّة أخرى في أنْ يجعل من فيلم بيوغرافي عن شخصية أخرى نوعاً من سيرة ذاتية، نرى ـ بفضل لعبة المرايا المتقابلة التي تنطوي عليها ـ تقابلاً مثيراً للاهتمام بين خيبة فان غوغ مع الحبّ، وسوء الفهم الذي يكتنف تلقّي أعماله، واستحالة القبض على الكمال من خلال الفنّ، وما عاناه بيالا من نفسه أو من الآخرين طيلة مساره، من دون أنْ ننسى المَشَاهد الخلّابة للحظات سعادة فان غوغ المنفلتة، راقصاً بين الغواني في الحانات، أو مستلقياً وسط حقول السنابل الصفراء بين أحضان مارغريت، التي خلّدها وأبيها الدكتور غاشيه في بورتريهاته الأخيرة.

حقّق بيالا، بتعبير المونتير يان ديدي، بورتريهاً بالتقعير لفان غوغ، مثلما تُصنع الميداليات بإفراغ معدن ثمين في قعرٍ منحوت. "آخر جملة تلفّظ بها فان غوغ قبل وفاته: "سيدوم الحزن إلى الأبد". لطالما اعتقدتُ أنّه يتحدّث عن نفسه. لكنّي فهمت فيما بعد أنّه يقصد حزن الآخرين"، كما قال بيالا.

المساهمون