"حايرة" لـ سهير صالح... على ظهر ناقلة بضائع تجوب دمشق

"حايرة" لـ سهير صالح... على ظهر ناقلة بضائع تجوب دمشق

20 ديسمبر 2021
+ الخط -

من الفلكلور العراقي، اقتبست الفنانة السورية الشابة، سهير صالح، أغنيتها الجديدة "حايرة"، لتقدمها بشكل عصري على أنغام الإيقاعات الإلكترونية الصاخبة، التي تكسر دفء الأداء، وتتنافر مع المشهدية والإيحاءات البصرية في الفيديو الذي أخرجه علاء أبو فراج؛ الذي ينقل لنا صورة واقعية عن الحياة داخل دمشق، ببساطة ومن دون تكلف، من خلال لقطات من داخل الأحياء الفقيرة، التي ستطوف الكاميرا فوق أسطح أبنيتها في النهاية.

ورغم أن أغنية "حايرة" من الأغاني المألوفة للجمهور العربي، والتي سبق أن تم استهلاكها بوفرة في منطقة المشرق العربي على وجه الخصوص؛ إلا أن النسخة التي تقدّمها سهير صالح تبدو مختلفة عن كل ما سبق؛ ففي كل النسخ الماضية كانت الأصوات التي تردد كلماتها أصواتاً خشنة يؤديها رجال، تبدو من خلالها الأغنية كأغنية عاطفية تحمل الكثير من سمات الشجن والحزن العراقي، كما هو الحال في النسخ التي قدمها كل من حاتم العراقي وماجد المهندس وطيف جاسم ومهند زعيتر.

لم يختلف الأمر كثيراً عن ذلك، حتى في أفضل النسخ السابقة من الأغنية، أي النسخة التي قدمها عمر حمدان ورافي سنة 2000، التي استخدمت كل التقنيات الحديثة التي كانت شائعة في الموسيقى العربية حينذاك، لتُطبع الأغنية في ذاكرة جيل كامل.

أغنية "حايرة" مع سهير صالح تبدو مختلفة كلياً؛ فبالإضافة إلى الموسيقى الإلكترونية الحداثوية التي أنتجها بادي عيسى، فإن الكلمات تبدو مع الصوت الأنثوي والكليب البسيط أكثر حساسية وشعرية؛ إذ تبدو اختزالاً لحالة شعورية تعيشها المغنية بصدق، ما يؤدي إلى توليد معانٍ جديدة للأغنية ذاتها؛ لنقرأ الكلمات هنا بصيغة أخرى، حيث يبدو مطلع الأغنية الذي يرد فيه: "حايرة والشوق بين عيونك. خايفة تحبين ويلومونك. باقية بنص الدرب محتارة. متعرفين هذا العشق وأسراره"، وكأنها كلمات تعبر عن علاقة فتاة سورية مع مدينتها، ما بين الارتباط الوثيق والعاطفي بالمكان والرغبة بالتحرر منه، والطيران مع الحمام الذي يحلّق عالياً في نهاية الفيديو.

هذه الحالة العاطفية تبدو أكثر جمالية حتماً من المعاني الأصلية التي تحملها الأغنية، التي كانت دائماً تبدو كأغنية عاطفية في وجه العادات والتقاليد.

ما يميز تجربة سهير صالح الغنائية، التي يبدو أنها قد بدأت تنضج مؤخراً، أنّها تتخذ خطاً مختلفاً عن كلّ الأصوات النسائية التي تنشط في الساحة الفنية السورية اليوم؛ فهي لا تنجرف مع الموجة السائدة التي تفترض أنّ الطبقات الأثيرية الناعمة هي الأمثل، بتأثير صوت فيروز التي لا تزال أغانيها تُذاع كلّ صباح على مختلف الإذاعات السورية.

ولا تغني بصوت جهوري بتأثير الأغاني الجبلية اللبنانية، وما قدمته نجوى كرم منذ التسعينيات، كما هو الحال مع بعض المغنيات السوريات اللواتي ظهرن في الساحة الفنية في العقدين الأخيرين، من أمثال رويدة عطية، وإنّما تغني بصوت أكثر واقعية وأقل شجناً، لتعكس ببساطة مساحات مغفلة بالمشاعر الأنثوية، التي عادةً ما يتم تنميطها في الأغنية السورية؛ ليبدو صوتها مرآةً للواقع السوري اليوم.

وكذلك تبدو صورتها أيضاً، وهي تطوف في شوارع المدينة على ظهر سيارة مخصصة لنقل البضائع؛ مرآة لمدينة هُمشت وتلاشت أصوات من فيها، من خلال ما تم تكريسه من أصوات وصور نمطية سابقاً.

كما تتميز تجربة سهير صالح الغنائية، عن باقي تجارب الفولك السورية التي تعتمد على النقل من التراث، بأنّها تملك نزعة واضحة للتجديد ولا ينحصر دورها في إعادة إحياء الأغاني التراثية، كما تفعل فرقة "الصعاليك" مثلاً. كما أنّها تخرج أيضاً من القوالب اللحنية الجاهزة، التي تم اعتمادها بهذا اللون من الغناء، فلا تستخدم موسيقى الروك كما فعلت فرقة "كلنا سوا" ومن تبعها، ولا تلجأ إلى الجاز الشرقي كما فعلت لينا شماميان ومعظم الفرق البديلة في العقد الأخير؛ بل تختار الموسيقى الإلكترونية ونغمات أكثر عصرية.

هذا الأمر، وإن كان قد سبق لبعض المغنين اعتماده في أغاني الفولك في لبنان، وله تقاطعات مع تجارب أخرى، كفرقة "الصابون يقتل"، ونينا عبد الملك، وآخرين ممن استخدموا الـ"إلكتريك بوب" في موسيقى الفولك؛ إلّا أنّه يعتبر شكلاً من أشكال التمرد الفني في سورية، إذ لا يتقبّل الجمهور بعض أشكال التجريب في التراث الفني.

الجدير بالذكر، هنا، أنّ سهير صالح تعرّف عن نفسها كممثلة على مواقع التواصل، وهي بالفعل درست التمثيل وتخرجت من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، قبل عدة أعوام، لكنّها لم تحصل على فرصة كبيرة حتى الآن في الدراما. في حين أنّها تمكنت من تقديم نفسها بشكل جيد للجمهور السوري في مجال الغناء، ولا سيما مع أغنية "أسمرانية" التي كان لها دور كبير في انتشارها على نطاق محلي واسع. إلّا أنّ الأمر اللافت للانتباه هو تطور سوية الأغاني التي تقدمها تدريجياً، لتصل مع أغنية "حايرة" إلى أعلى مستوى لها منذ بدايتها مع الغناء.

المساهمون