"بلفاست": الجميع ينزف وما من دماء

"بلفاست": الجميع ينزف وما من دماء

18 يناير 2022
يلجأ المخرج إلى التلاعب بالمتلقي حين تُطرح أحاديث البالغين على الطاولة (Focus Features)
+ الخط -

يصور فيلم "بلفاست"، تجربة أولئك الأسوأ حظاً، ممن فرض عليهم الاختيار بين العيش في بلدانهم الخاضعة لأزمات وحروب مشتعلة، أو حزم حقائبهم للتوجه نحو مستقبل لا يعرفون عنه شيئاً.
لم تكن الإجابة عن هذه المعضلة الإنسانية بالسهلة يوماً، وكذلك يقترح فيلم كينيث براناه، الحائز جائزة "غولدن غلوب" لأفضل سيناريو فيلم (2021)، حين ينقل معاناة قاطني شمال بلفاست، أثناء الاضطرابات التي عمت إيرلندا الشمالية عام 1969، واستمرت لمدة طويلة بعدها، مخلفة آثاراً شديدة وموجات هجرة شاسعة.
لا يسعى فيلم السيرة ذاتية للمخرج الإيرلندي البريطاني، إلى تجسيد ويلات الحرب وأعمال العنف المباشرة، بل يكتفي بمراقبة العالم عبر عيني طفل في التاسعة من عمره، وهو بادي (Jude Hill)، بفهمه المحدود والطفولي لما يجري من حوله، والذي تنقلب حياته رأساً على عقب، حين تحرق مجموعة من مثيري الشغب بيوت العائلات الكاثوليكية في منطقة تسكن غالبها العائلات البروتستانتية. يحيل الشغب منطقة الطبقة العاملة تلك إلى ساحة حرب مصغرة، تغص بالعصابات والمجموعات البلطجية المسلحة والحواجز البشرية، وحملات "تطهير المجتمع" التي تمزق الاستقرار وتؤجج الصراع بين قاطني البلدة.
يخط الفيلم، عبر ساعة 38 دقيقة، مذكرات سينمائية لطفولة المخرج في البلدة الصغيرة تلك؛ إذ يجسد بادي براناه نفسه حين أُجبر على مغادرة بيته في إيرلندا الشمالية، ولم يبلغ من العمر التاسعة بعد. أمر ما زال يستذكره المخرج الذي ناهز الستين من عمره بحزن وألم شديدين.


يشتعل فتيل التعصب والعنصرية بعد دقائق عدة من بداية الفيلم. عندها، لن يكون من الضروري أن يشيح أصحاب القلوب الضعيفة بنظرهم خوفاً من مشهد عنيف أو قاسٍ، لأنّ الفيلم الذي يمكن تصنيفه ضمن فئة الأفلام المناهضة للحروب، يكاد يخلو من أيّ منها. فمنذ المشهد الأول للفيلم، تبدو أعمال الشارع من نهب وإشعال للمولوتوف وتدمير وسرقة، وكأنّها خلفية باهتة يتفادى المخرج التركيز عليها، إلى حد تهميشها بأسلوب Out Of Focus، ويدور بكاميرته عبر إطار ثابت، لمدة ليست بالقصيرة أبداً، حول محور الحدث؛ الطفل بادي الذي يتسمر مكانه ليشهد على المجزرة بعينين مفتوحتين على وسعهما. قد يبدو للبعض أنّ تهميش الحرب ومصائبها هو تساهل مع ما خلفته من أهوال، أو تبسيط للأثر السياسي وما أفرزه من واقع كارثي أحاط بإيرلندا الشمالية من كلّ حدب وصوب خلال تلك الفترة المشؤومة. إلّا أنّ الفيلم يفعل ما هو معاكس لذلك تماماً، فالأثر الذي يحدثه "بلفاست" في نفوس مشاهديه يكاد يفوق بأشواط ذاك الناجم عن استفزاز المشاعر بميلودرامية مبتذلة، أو مباشرة في الطرح. الجميع ينزف، وما من قطرة دماء واحدة. مقاربة سبق أن شهدناها مع واحد من أهم كلاسيكيات السينما الإيطالية، Life Is Beautiful.
يلجأ المخرج إلى نهج التلاعب بالمتلقي ذاته حين تُطرح أحاديث البالغين على الطاولة، فنسمع منها عبارات هامسة ووشوشات لا تختلف عن تلك التي يلتقطها طفل يسترق السمع من خلف باب غرفة والديه. ونعرف قصصاً مجتزأة، غير مفهومة، وخارج الإطار الزمني والمكاني المنطقي لحدوثها، ونلتقط إشارات غامضة عن الوضع المالي للعائلة وديونها والتخلف الضريبي لوالد بادي (Jamie Dornan)، وعن فكرة السفر التي تلقى رفضاً شديداً من زوجته (Caitriona Balfe).
يشعر المشاهد بأجواء توتر توحي بتراكم الخلافات بين الأبوين اللذين يُعرّف الفيلم عنهما بـ ماما (Ma)، وبابا (Pa)، من دون أي ذكر لاسميهما، وهو مؤشر آخر يؤكد عبره المخرج أنّ اهتمامه ينصب بشكل كامل على كونهما كيانين أبويين لبادي قبل أي شيء آخر، ما يجعلنا كمشاهدين غير مهتمين، إلى حد ما، بمشاكلهما الشخصية أو الزوجية، ما لم يكن لبادي حصة منها.
يشرح فيلم "بلفاست" ثنائية النضج/البراءة، وكيف تتناقض هذه الأخيرة مع العالم المحيط، وتعقيداته أو ما فيه من "مشاكل"، وهي كلمة بادي لوصف مشهد الحرب غير المفهوم بالنسبة له، ولا ربما لمتلقي الفيلم غير المطلع على الفترة التاريخية للأحداث. فالراوي الوحيد عبر الفيلم غير موثوق، ولا سبيل للخروج من إطار رؤياه أيضاً، إلى الحد الذي يجبرنا على متابعة ما يشاهده بادي من باحات لعب ومسرحيات أطفال وأعياد ميلاد ومقتطفات طويلة ملونة من أفلام "ستار تريك" و"سندريلا"، وهي رشقات اللون الوحيدة ضمن عالم الفيلم الأسود والأبيض، تعبيراً عن مدى انذهال بادي بعالم الرسوم المتحركة وتوقه لرؤيتها كل أسبوع، وكأنها الشيء الوحيد "الجميل" و"الملون" في عالمه.


وعلى الرغم من وجود السينما الملونة كمتنفس أميركي واهٍ، واقتراب الطفلة، التي يحبها بادي ويحلم بالزواج منها، مقعداً إلى جانبه في الصف، وحضور الجد والجدة الداعمين والمحبين، لكنّ التهديد المستمر لا يمكن تجاهله، و"التصحر" الذي ضرب بلفاست من كلّ ناحية، يجعل الحياة فيها محكومة بالفشل. أمر تقتنع به "ماما" نهاية الفيلم، وهي أشد المدافعين عن مفاهيم الانتماء والجذر، إلّا أنّ سرقة بادي لمسحوق غسيل بيولوجي من سوبرماركت يتعرض لغزو الحشود، واحتجازه رهينة لدقائق من قبل أحد أفراد العصابات، تجعلها تقرر الانتقال إلى مكان أكثر أماناً لعائلتها، من دون أي تردد، في حين تقرر الجدة البقاء في منزلها، على غرار العديد من سكان البلدة الذين رفضوا مغادرتها لأسباب شتى.

جدير بالذكر أنّ أداء الممثلين عبر الفيلم، خصوصاً الجد (Ciarán Hinds) والطفل بادي والأم، كان ساحراً إلى أبعد حد، أمر تفسره خلفية كينيث براناه كممثل مسرحي شكسبيري. ولا تقل جهود المخرج في تحديد الإطارات واختيار أماكن التصوير وشحذ وجوه الممثلين عبر الظلال عن عمله كمعدّ للممثلين في الفيلم.
لا شيء يعوض خسارات الحروب، إلّا أنّ فيلم "بلفاست" يقدم عبر بساطته عزاءً صغيراً لضحايا الأزمات والحروب ولسكان منطقة بلفاست: "لمن بقوا، لمن رحلوا، لمن ضاعوا" وفق كلمات المخرج نفسه.

المساهمون