"أنت"... القاتل في جلسات العلاج النفسي

"أنت"... القاتل في جلسات العلاج النفسي

27 أكتوبر 2021
وقع الموسم الثاني من العمل في فخ الرتابة والتكرار (نتفليكس)
+ الخط -

عبر ثلاثة مواسم، يحاول المسلسل الأميركي "أنت" (You) تضمين الجريمة في قالب إنساني، كرد فعل عاطفي عكسي، نابع عن بيئة طفولية عنيفة ترسم سلوك الإنسان الأخلاقي، وتقود فيه إرادته وخياراته.
منذ الموسم الأول، حيث نتعرف على جو، بطل الحكاية، موظف المكتبة، ندخل في أجواء القضية، المختلة والعبثية، إذا أمكن القول. فالراوي هو نفسه البطل الرومانسي المختل عاطفيًا، حاد الذكاء، بليد المشاعر، القادر على إزهاق الأرواح في سبيل الحب. هذه هي النسخة المختصرة عن شخصية البطل. وعليه، فإن على المشاهد فرز المعطيات والتفاصيل النفسية، قبل الولوج إلى سرديات القصة وشخوصها ومحاورها.
القاتل لطيف الطباع، راقٍ لا تشوبه، في نسيج درامي متخيل، شائبة. ولكن، مع صعود الحلقات وتوسع الأحداث، ستختل هذه السمات، وتنزلق نحو هاوية الصدمة. تتفكك نظرية البطل المتكامل أمام فوضوية الأثر اللحظي، من دون أن ننزع عن أداء البطل حضوره التمثيلي وملامحه التي تساعد في ترك انطباعات متوترة أمام الكاميرا. درجة لن تعرف معها مدى تماهيك وتعاطفك معه، دموي ورومانسي. ازدواجية قاسية التقبل في عالم أدب الجريمة والإثارة النفسية. ولا شك أن هذا النوع من الشخصيات يحتاج إلى مهارة عالية في بنائها وتجسيدها دراميًا لضبط الإيقاع التفاعلي بينها وبين المشاهد، وهو ما لا ننفيه في المسلسل. غير أن منحنيات القصة أخذت تخرج عن مسارها السليم مع نهاية الموسم الأول. والإيقاع التفاعلي شابه الشطط والملل في عديد من النواحي، فأصبحت شخصية جو مستهلكة في الموسم الثاني، إلى جانب استهلاك جميع عناصر الحكاية، على رأسها المونولوجات التي يخاطب بها جو عقل المشاهد. فرغم أنها حوارات ذكية (أو متذاكية) وتشكل عاملًا أساسيًا لفهم عقلية البطل، ولربط الأحداث أو التمويه فيما بينها، إلا أنها، لكثرة الاعتماد عليها، شلت حركية المشاهد ودينامية الصورة في مواضع كثيرة، رغم محاولة ضخ بعض اللمسات التكتيكية في السرد القصصي، وتفريغ النهاية، لماماً، في جعبة موسم جديد. فينتقل البطل من قصة إلى قصة أخرى، أي حكاية حب أخرى، وضحايا جدد، ضمن أسلوب واحد مصمم لتكثيف المقاصد الأخلاقية المطروحة في ثنايا العمل، والتي تتضح أكثر مع حلقات الموسم الثالث.

يكشف الموسم الثالث عن سعي محموم في دحض نظرية عقدة الذنب، ونسفها. البطل الذي أصبح شريكًا مع حبيبته لاف، التي أنجبت منه طفلًا، جعل شكل العلاقة بين الزوجين يتحول إلى دراما اجتماعية خلقت صراعًا مناسبًا ومختلفًا للأحداث، غير أنها بقيت تدور في فلك تطهير عقل القاتل من عنفه وجرائمه. فالزوجة أيضًا قاتلة. وهي كبش فداء للبطل. يستل منها إنسانيته المفقودة لحماية طفله منه ومنها. وهي مبررات واهية مضبوطة بسيناريو مكثف، لخلق عملية التماهي مع رحلة البطل وتطور شخصيته وقناعاته، وفق تفسير سلوكي لا يختلف، من حيث الاقتباس، عن شخصيات دوستويفسكي، ولا سيما شخصية روديون راسكولينكوف في روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب". فعقدة الذنب تودي ببطل الرواية إلى الاعتراف بجريمته. أما بطل المسلسل فإلى انتفائها من أساسها، تبعًا لحججٍ يمارسها لأنسنة مشاعره، وفتح بوابة للاندماج الطبيعي مع المجتمع وسلخ الجرائم، التي ارتكبها بدافع العاطفة، من ذاكرته.
لذلك، نرى جلسات العلاج النفسي التي يحضرها مع زوجته. تربية الطفل وفتح مستوى آخر من العلاقات الاجتماعية مع المحيط. وهو أسلوب جيد لتوسيع الأحداث وسردها بشكل آخر مختلف عما كانت عليه في المواسم الأولى؛ ما يسمح بفتح نوافذ أخرى على السيناريو العام للمسلسل، وتمكين خيوط العمل من انتشال الرتابة في النص وفي الشخصيات الرئيسية.

دوافع النص دراميًا لم تكشف عن نزعة فطرية تتجلى في الذات الإنسانية، إلا في مراحل متأخرة من الموسم الأخير. والنهاية، كما كل موسم، تكرر نفسها، وتكرس عودة البطل إلى طبيعته. القاتل في حكاية حب جديدة سيرتكب لأجلها سلسلة من الجرائم، هي في مجملها غير منطقية، ولا مبررات لها.

حتى إن انتقال البطل من مكان إلى آخر هربًا من جرائمه يتنافى مع بلادته ومزاجه البارد من جهة، ومع اختفاء الوعي الدرامي للمنطق القضائي والبوليسي من جهة أخرى.

المساهمون