إنذارات كِنْ لوتش: تفكّك الأُسَر البريطانية

إنذارات كِنْ لوتش: تفكّك الأُسَر البريطانية

24 يونيو 2019
"معذرة، لم نجدك": مصائر مأزومة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
أسئلة كثيرة يُثيرها "معذرة، لم نجدك" (2019) للبريطاني كِنْ لوتش (1936)، يتعلّق أحدها بالطبقة الوسطى: طاقتها ومدى قدرتها على التحمّل، وعمّا إذا أمكن للمنتمين إليها أن يثوروا قريبًا، على أنفسهم أساسًا، قبل أوضاعهم. وبالتالي: إلى متى ستستمرّ التضحية بالصحّة والجهد والوقت والمال، للحفاظ على ظروف معيشية هزيلة للغاية؟ ما تعرضه نشرات الأخبار، من أنباء عابرة أو غير عابرة، لا تأثير له كذاك الذي تصنعه دراما صادقة ومقنعة، تدفع إلى الالتحام بها والتماهي مع أبطالها. لوتش بارع في تقديمٍ حيّ لأصداء وتبعات وعواقب ما تبثّه الأخبار واقعيًا. مفردات، كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والعزلة الاقتصادية واقتصاد السخرة والبطالة والفقر، تتجسّد في شخصيات حقيقية، تجعل متابعيها يُصدّقونها، لشدّة مصداقيتها. هذه قوّة لوتش وسينماه.

عملاً تلو آخر، يُثبت لوتش أنّ حكاياته القديمة والمعروفة لا تزال تثير الدهشة، وتبعث على التأمّل، وتمنح متعة وتشويقًا، وتترك آثارًا عميقة، نفسيًا وإنسانيًا. وعند تأريخ تلك الفترة البريطانية اجتماعيًا وسياسيًا، سيُتوقَّف طويلاً عند أفلامه وأفلام مواطنه مايك لي (1943)، فحصًا ودراسة، لملامستها الصادقة للحياة البريطانية. سينماهما، خصوصًا سينما لوتش، اجتماعية وتأريخية، بعيدة عن السياسيّ والاجتماعيّ بكليشيهاتهما، فسينماهما واقعيّة وجافة وقاسية، وتمتلك، في الوقت نفسه، قدرًا كبيرًا من الفنيّة السينمائية.

في "نيوكاسل"، يعيش ريكي تيرنر (كريس هيتشن)، العامل اليومي في السباكة والنجارة والبستنة. يفقد وظيفته بسبب أزمة عقارية قبل 10 أعوام، ولا تزال الديون تلاحقه. مع ذلك، يفخر بأنّه لم يتعطّل يومًا. لكن متطلّبات أسرته تتزايد، يومًا تلو آخر. نفقات الحياة لم تعد كما في السابق. لذا، يحتاج إلى دخل ثابت، نوعًا ما، يعتمد عليه، ويسدّد بفضله ديونه. في مشهد افتتاحي، يُذكّر بافتتاحية "أنا، دانيال بليك" (2016) للوتش أيضًا، يُسمع ـ على شاشة سوداء ـ مضمون حوارٍ مع ريكي في شركة توظِّفه في توزيع البريد السريع.

يُدرك نيكي أنّ هناك مشاكل متعلّقة بالوظيفة، لكنه لا يتراجع، فلا بديل آخر له. بداية، عليه شراء سيارة (فان) خاصة لنقل الطرود. سيحصل على مكافآت بناءً على العمل المُنجز، بدلاً من راتب شهري ثابت، أيّ أنّه لن يكون موظفًا، بل سائقًا يقود سيارته الخاصة مقابل عمولة. اشترى السيارة بالتقسيط. لا مجال نهائيًا للراحة في هذا النوع من العمل. السرعة ثم السرعة ثم السرعة. لا إجازات ولا اعتذارات. عند الضرورة القصوى، عليه إيجاد بديل عنه. هناك يوم عطلة واحد أسبوعيًا (14 ساعة عمل يوميًا). مديره مالوني (روس بريستر) صارم. يسمح له بزجاجة بلاستيكية لقضاء حاجته. مقابل هذا كلّه، لا يكفي الأجر. المعضلة أنّه بناء على نظام العمل الصارم والحديدي، فإنّ أيّ خطأ يقع، يدفع العامل مقابله من مستحقّاته.

زوجته آبي (ديبي هانيوود) ممرضة تخدم المسنّين. يستعرض كِنْ لوتش، في أكثر من مشهد، مواقف صعبة تجتازها يوميًا بجَلَد وثبات، أثناء عملها معهم. هؤلاء يُصبحون أطفالاً يحتاجون إلى رعاية، طبابةً وعلاجًا، وتغيير أسرّة وحفّاضات وغيرها. تعاني آبي تذمّرهم، وأفعالاً صبيانية يُمكن أن تودي بهم. من منزل إلى آخر، ومن مُسنّ إلى مُسنّ، في اليوم نفسه: هذه باختصار حياتها. لا راحة لها. أحيانًا، تُطلب للعمل في عطلتها الأسبوعية. تتضاعف مشكلتها بعد بيع سيارتها (للحصول على مبلغ أوّلي لسيارة زوجها)، واضطرارها إلى استخدام وسائل النقل العام، فتصل متأخرة أحيانًا كثيرة.

في "معذرة، لم نجدك" (الجملة تُكتَب على ورقة يتركها ساعي البريد عندما لا يجد صاحب الطرد في العنوان المدوَّن عليه)، ينتقل كِنْ لوتش، مع السيناريست المفضَّل لديه بول لافيرتي، من دراما الفرد، المُقدّمة بصدق عميق في "أنا، دانيال بليك" ـ السعفة الذهبية في الدورة الـ69 (11 – 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ إلى دراما الأسرة والمجتمع. السياسة في خلفية المشهد، فالاجتماعي والإنساني يتقدّمانها. بعد تسليط الضوء على مأساة فرد في فيلمه السابق، يوسّع لوتش دائرة هواجسه ومخاوفه بشأن مجتمع قوامه الأساسي الأسرة. أسرة ريكي وآبي وطفليهما "نموذجٌ" لما يحدث، أو سيحدث قريبًا، من تفكّك كارثي في بنية المجتمع البريطاني.

في جديده، لا يتوقف لوتش كثيرًا أمام مشاكل العمل التي يعانيها الزوجان، إلا بما يخدم غرضه الأساسيّ: ابتعادهما التدريجي عن الأسرة وحياتهما فيها، وإهمالهما ابنيهما، بسبب العمل. بعد صراع مرير وإهانات متبادلة بين الأب وابنه، تننتهي بصفع ريكي ابنه (15 عامًا) سيبستيان (ريس ستون)، يدرك الأب أنّه لا يعرف شيئًا عنه: لا مواهبه، ولا أزمته كمراهق واعد، لم يتشكل وعيه بعد. كذلك معاناة الابنة (11 عامًا) ليزا جاين (كاتي بروكتور)، وافتقادها والديها، خصوصًا ريكي.

رغم المشاكل المتفاقمة في المنزل، بسبب صعوبة الأوضاع، يواجِه أفراد العائلة ريكي ذات مرة لمنعه من الذهاب إلى العمل، وهو في حالة يرثى لها، بعد تعرّضه لاعتداءات وحشية وسرقة هواتف محمولة وطرود من سيارته. الخاتمة باعثة على أسى وتمزّق، لكنها تنقل بصدق وكآبة مرارة الواقع وقسوته.

في الفيلم، تُميَّز بسهولة التفاصيل كلّها التي تسم سينما كِنْ لوتش: الهمّ الإنساني، والالتزام بوجهة نظر تجاه الحياة والمجتمع، والانحياز إلى البشر دائمًا. السيناريو مُحكم ببراعة. مفردات الحوار مكتوبة بدقّة. اختيار الممثلين يخدم رؤية المخرج. لا أسماء لامعة، فجميعهم موهوبون ومحترفون. إدارته إياهم لافتة للانتباه، كما ضبطه نبرة أدائهم، فلا ينقلب التمثيل إلى ميلودراما فجّة، تُفسد كلّ شيء. هناك أيضًا تقديمه شرائح اجتماعية مختلفة في كلّ فيلم، والانتقال من مدينة بريطانية إلى أخرى للتأكيد على عمومية الظواهر المطروحة في أفلامه. كما يهتمّ بالشباب ومشاكلهم، والعقبات التي يواجهونها، وكذلك العجزة ومعاناتهم في وحدتهم، في مجتمع مادي لا يرحم.

المساهمون