فيلم "ليلة الاثنتي عشرة سنة"... مرحباً أيها الظلام

فيلم "ليلة الاثنتي عشرة سنة"... مرحباً أيها الظلام

28 فبراير 2019
السجين في المرحاض واجتماع عسكري عاجل (فيسبوك)
+ الخط -
حين قرأ المخرج الأورغوياني الفارو بريشنر كتاب "ذكريات الزنزانة" وجد فيه ضالته، وامتحانه السينمائيين. إنه أمام اثنتي عشرة سنة، أو 4323 ليلة في الزنازين.

كيف سيتحرك في مكان ضيق؟ هذا لم يكن سؤاله الإبداعي، بل كيف عليه أن يصوّر فقط في 123 دقيقة، فيلماً يدفع العباد للتحديق في زنازينهم، أينما كانوا، وبأي لغة تفوهوا بها، أو مُنعوها.

صدر فيلم "ليلة الاثنتي عشرة سنة" (A Twelve-Year Night) في سبتمبر/ أيلول 2018، بعد 29 عاماً من كتاب "ذكريات الزنزانة" 1989، للشاعر والروائي الأورغواياني موريسيو روسينكوف، بمشاركة مواطنه أليتيرو فرنانديز هويدوبرو.

من تابعوا الفيلم خارج الأورغواي يتوقع أنهم سيجيبون "نعم، هذه أول مرة نتعرف إلى موريسيو، وفرنانديز هويدوبرو" الملقب بـ"ناتو". بينما لا حاجة شديدة لتقديم ثالثهم، فهو خوسيه موخيكا (بيبي) رئيس الجمهورية السابق (2010- 2015) الذي لفت قلوب الناس، بملابسه البسيطة، وسيارته الفولكسفاغن الخنفساء، موديل 1987، غير المناسبة لرئيس بلدية في دولة بوليسية، والذي يتبرع بغالبية راتبه (12 ألف دولار) للجمعيات والشباب.

ينحاز المخرج إلى هؤلاء الذين اعتقلوا عام 1973 ضمن تسعة معتقلين من قادة حركة توباماروس اليسارية، التي انتهجت العنف الثوري المسلح ضد دكتاتورية الأوروغواي. وثلاثتهم كانوا وقتذاك في أواسط الثلاثينيات من العمر.

ولم ينخرط الفيلم في سجال سياسي فكري، هل كانت توباماروس على حق أم لا؟ وما وجهة نظر النظام الحاكم؟ لماذا كانت التوباماروس تغتال ضباط الجيش والشرطة، وتخطف مديري بنوك ومؤسسات، ويصل صيت عملياتها من هذا البلد الصغير إلى العالم، فتزجى لها التحيات، من المؤمنين بالتغيير تجاه أنظمة لا تفهم سوى العنف؟

وكيف كانت أجهزة الدولة الأمنية تفتك بالثوريين الأقل تسليحاً بالطبع، وتنال الترحيب من أنظمة زميلة، ومن قطاع شعبي يرى أن هؤلاء المتمردين شيوعيون عبثيون؟

النظام العسكري الحاكم أمام شبيبة ثوريين، أعمل فيهم قتلاً دون محاكمة، وجند أجهزته لتلفيق أنصاف التهم والقتل على أساسها، لا لأنه يريد سيلاً من الدماء، لكن أي مقدار من الدم عليه أن يجري، إلى أن يشيع مناخ عام من الذعر.

من اليمين الممثل تورت والمخرج بريشنر والممثل دي لا تور بمهرجان فينيسيا (Getty) 

كل منتصر له صيحة "لقد انتهى كل شيء الآن" وهو ما وقع بالفعل. التوباماروس هُزمت عسكرياً، وأمسك بالقادة الثلاثة، وقيّدوا بالحديد رهائنَ دون محاكمة لاثنتي عشرة سنة، والباقون من أعضاء الحركة، حُكموا، وأودعوا السجن.

بيد أن النهايات ليست في جرابك وحدك. فقد عاد الثلاثة بعد زوال الحكم العسكري، ليصبح واحد منهم رئيساً للجمهورية، والثاني وزير دفاع، والثالث يكتب الروايات والمسرحيات.

إذن، منذ لحظة القبض عليهم يختار الفيلم انحيازه الطبيعي: رهائن سياسيون لا يعرفون متى ستشرق الشمس، بلا محاكمة، ولا عقوبة محددة. ولهذا افتتح الفيلم بعبارة كافكا في كتابه "مستوطنة العقوبات"، إذ يسأل شخص عن عقوبة المتهم فتكون الإجابة: العقوبة هي ما سيختبره.

نحن أمام فيلم قرر الذهاب إلى مذكرات من ثلاث زنازين وثلاث أرواح عزلاء. إلا أن استعراض شريط الإهانة، لا يقدم الرواية كلها.

أنطونيو دي لا تور يؤدي دور "موخيكا" (IMDB)

عمد الفيلم إلى الدخول في أعمق نفوس المعذبين. إنهم يقاومون ضد ما أعلنه المنتصرون. لقد قالوا لهم إن التخلص منهم أمر بالغ السهولة، لكن عوضاً عن ذلك سيدفعونهم إلى الجنون. قال هذا ممثل النظام، الضابط القاتل الذي أدى دوره ببراعة الأورغوياني سيزار ترونكوسو.

بقي موخيكا الذي أدى دوره الإسباني أنطونيو دي لا تور في زنزانة بعيداً عن رفيقيه موريسيو وناتو، وقد شارف بالفعل على "الجنون" المطلوب، وعرض على الطبيبة النفسية، التي ينبغي أن تصف علاجاً ممكناً، قد يعين موخيكا على الأعداء الذين يخترقون دماغه، والطيور الليلية التي تباغته، والأصوات التي تغلي في أذنيه.

الطبيبة تسأل موخيكا الذي تعرض لكل ذلك التنكيل عن إيمانه بالله، يجيب "أي إله يسمح بكل هذا؟"، فتردّ "الإله الوحيد الذي يتوفر لدينا للأسف".

كان مشهداً واحداً فقط، ولخمس دقائق ظهرت فيه الممثلة الأرجنتينية، سوليداد فيلاميل، بطلة فيلم "السرّ في عيونهم" الحائز على جائزة الأوسكار 2009.

الأسئلة البسيطة ليست إلا كثافة مقطرة للتجربة والألم. وهذا ما انتبه إليه المخرج. فحين يقول موخيكا للطبيبة "أنت أول امرأة أراها منذ سنوات"، ستقف عاجزة، وربما عليها أن تفكر في وصفة طبية لشرطي بسيط يلازم الرهينة المقيد.

يذكّر هذا بالجندي (أحمد زكي) في فيلم "البريء"، جاثماً على صدر السجين السياسي (صلاح قابيل) يضربه على رمل الصحراء، ويردد "يا عدو الله والوطن"، خبزته الحلال تقضي بأن يكون رهينة يراقب رهينة. والأخير أعزل، ولكنه من الخطورة، إلى درجة أنه عدو لله والوطن في آن.

والكوميديا أيضاً بنت التجربة القاسية والألم. جلْبُ موخيكا إلى الطبيبة النفسية، جاء بعد أن حضرت والدته لزيارته، فرجاها ألا تتكبد عناء الزيارة مرة أخرى. الأم تترك لابنها "نونية" بلاستيك للتغوّط، وكيلوين من المتّة (مشروب شعبي ساخن)، وحاجيات أخرى يستولي عليها حراس السجن.

وأثناء مهرجان خطابي في باحة السجن، يصعد موخيكا من فوق سريره إلى حديد النافذة، ويصرخ "هاتوا نونيتي. هاتوها. أريد المتّة"، وتشوش صرخات النونية والشتائم، على ميكروفون الضابط الرفيع، وهو يخطب أمام جمهور عسكري ومدني، ممجداً عظمة البلاد، وفخامة "رئيسنا" فريد العصر، ووحيد القرن.

كم من البشر من يتمنى حاسداً، لو تتاح له الفرصة لمقاطعة خطاب مجيد، بألفاظ "نونية"؟ حتى مع دفع الثمن ركلاً، كما وقع لموخيكا، ثم نيل فرصة مقابلة مرشدة نفسية رحيمة، تسأله "كيف يمكنني مساعدتك؟".

السنوات الأولى مضت دون كلام، وبأمر عسكري يمنع الثلاثة من التفوه بأي حرف مع بعضهم البعض، أو مع حراس السجن. وما عدا موخيكا، كان موريسيو الذي أدى دوره الممثل الأرجنتيتي تشينو دارين، وناتو (الممثل الأوروغوياني الفونسو تورت)  في زنزانتين متلاصقتين.

وبدل الكلام الممنوع، ابتدعا بالنقر على الجدار شيفرة، طوراها معاً، إلى أن باتا يسردان بالأصابع قصصاً ويتناقشان، بل حتى لعبا الشطرنج، وفاز موريسيو على ناتو، وبنقرة أخيرة قال له "كش ملك".

يقول الكاتب الأورغوياني الشهير إدواردو غاليانو في مقدمته لكتاب الرفيقين موريسيو وناتو إن الاثنين استعادا حقهما في الكلام من خلال الجدار الذي تنفساه، وتقاسما عبره الخبرة والأوهام، والأشباح والأحلام. أصابعهما تحدثت بلغة حقيقية ولدت من الحاجة للقول.

يكشف هذا حس الكرامة العالية، وما تيسّر من مكر لدى السجناء السياسيين، في بلاد أراد نظامها تحويلهم إلى أشياء، والناس في الخارج إلى صم وبكم. يقول غاليانو.

وحين يشعر السجّان بأن التنكيل بالسجين السياسي سيترك علامات على جسده، يستعين بإحدى "فضائل" الولايات المتحدة حليفة الأنظمة المستبدة.

فهذا كتاب "أدوات ووسائل التعذيب" لمايكل كيريغان يورد عقوبة "البقعة" التي كانت تستخدم داخل سجن فولسوم، في كاليفورنيا، نهاية القرن التاسع عشر، وتتمثل بدائرة في منتصف الأرضية، قطرها حوالي ستين سنتمتراً، كان على السجين الوقوف فيها، بلا حراك لفترتين، كل منهما أربع ساعات.

دخل الحراس إلى زنازين موخيكا وموريسيو وناتو، ورسموا خطاً أبيض، كُتبَ عليه "ممنوع التجاوز". وكما يلاحظ كيريغان فإن هذه العقوبة، لا تبدو ظاهرياً مؤلمة، إلا أنها قاسية بما يكفي لمن عاشوها.

رسم خط يحدد الحركة، أحاله الكاتب إلى سجن أميركي، وهذا وإن كان مثبتاً، إلا أن الأكثر وجاهة اعتباره إحدى نسخ التعذيب المتكررة. فما السجن وما فكرته الأساسية سوى تحديد الحركة، كما يفعل السياج بحركة الحيوانات البرية بغية استئناسها، أو للتحكم في تكاثرها ومنتجاتها.

وما السجن حين يكون تاريخاً قديماً إلا مذكراً بأن الحرية أشواق قديمة أيضاً، حتى وإن كتبت بلغات مختلفة، فإن الأنفاس والنبض والصرخات واحدة في كل كبد رطبة.

يخطب الضابط الكبير، فيصرخ موخيكا مشوشاً عليه وشاتماً، فتتذكر فوراً الخطاب الأخير للرئيس السوري، وقد سجلت وسائل الإعلام مقاطعته ثلاثين مرة. ولأن المقاطعين تنافسوا على تطريز المدائح للرئيس وربطه برباط مقدس "الله سوريا بشار وبس"، فلن يعرض أي منهم على طبيب نفسي.

يدخل القادة الثلاثة الثوريون إلى حفلة التعذيب في اليوم الأول، ومذياع السجن يبث برنامج "ما يطلبه المستمعون"، فتتذكر فوراً القنصلية السعودية وحفلة تقطيع جمال خاشقجي مع الموسيقى، كما سرّبت الرواية.

في عام 1980، يقرر الحكم العسكري في الأورغواي إجراء استفتاء على تعديلات دستورية ضامناً نتيجته لصالحه، فتتذكر فوراً النسخة المصرية 2019، مع فارق أن شعب الأوروغواي رفض التعديلات، وبدأ العسكر يجمعون أغراضهم، استعداداً للرحيل. وانعكس ذلك فوراً على موخيكا وموريسيو وناتو الذين غادروا زنازينهم الانفرادية، وأصبحوا سجناء عاديين، يحق لهم الكلام لأول مرة ورؤية الشمس، واستخدام المراحيض.

في المشهد الذي تحقق في عام 1985، كان السجناء يعانقون ذويهم في الشارع، وموخيكا بينهم يبحث عن أمه، حاملاً بيده أصيص أزهار. لم يكن الأصيص سوى النونية البلاستيك التي أحضرتها الأم قبل سنوات.

وموريسيو، الذي ما زال يكتب وقد جاوز الثمانين، ولا نعرف هل ما زال الرقيب في السجن على قيد الحياة؟ الرقيب الذي كتب له موريسيو رسائل الحب لحبيبته التي تعمل خبازة مع أمها، وبعد سنوات التقيا في سجن آخر وبشره الرقيب وشكره لأن الرسائل كانت سبباً في قبولها الزواج منه.

وناتو الذي توفي في 2016، ولم يحظ بحضور العرض الافتتاحي للفيلم مع رفيقيه، كان يعانق ابنته بذراعين مفتوحتين، وهي التي زارته في السجن وسألته والطاولة تفصلها عنه "لماذا أنت بلا ذراعين؟"، ولم تلحظ القيود التي تمسك رسغيه تحت الطاولة.

نتحدث عن شخوص كأنهم عادوا من جديد في شريط تسجيلي، لكنهم، حقيقة، كانوا ممثلين مقنعين وصادقين في جهدهم، ليس فقط لجهة التشخيص، بل في الطاقة التعبيرية التي تتوافر في السينما، وتغبطها عليها باقي الفنون.

الليلة الأخيرة على الطريق المظلم استعاد الفيلم بصوت الإسبانية سيلفيا كروز أغنية "صوت الصمت" (The Sound of Silence) التي غناها في مطلع الستينيات الثنائي الأميركي سايمون وغارفنكل، ومطلعها "مرحباً أيها الظلام، صديقي القديم". أليس هذا صوت أو صدى النشيد العربي "يا ظلام السجن خيّم، إننا نهوى الظلاما"؟

دلالات

المساهمون