رينيه بندلي... عمري من عمر الزمان

رينيه بندلي... عمري من عمر الزمان

30 ديسمبر 2019
وُلد بندلي قبل سبعين عاماً في بلدة طرابلسية (Getty)
+ الخط -
في ثمانينيات القرن الماضي، شاهدتُ رينيه بندلي وابنته ريمي يغنّيان لجمهور من الأطفال في مدينة صيدا في جنوب لبنان. تجمّعنا، نحن الأطفال، في باحة مدرسة، وشاهدنا ريمي تقدّم منفردة أغنياتها الشهيرة، مثل "غسّل وجهك يا قمر"، و"طير وعلّي يا حمام"، ثم تعود وترافق والدها في أداء أغنيات أخرى، أشهرها أغنية "بابا"؛ وهي حوار غنائي طريف بين طفلة مدللة وأبيها المثقل بهموم المعيشة.

من كان يدري حينها أن تلك الأغنية المرحة ستتحوّل بعد عقود من الزمن إلى مرثية لرينيه الذي فقده لبنان، قبل أيام، راحلاً عن سبعين عاماً، لتقتبس ريمي جملتها الافتتاحية في الأغنية الشهيرة "ردّ عليي يا بابا حاكيني"، في ما كتبته لوداع والدها على صفحتها في فيسبوك.

حين تسأل محرّك غوغل اليوم عن رينيه بندلي، تحصل على نتائج متفرقة يعود أغلبها إلى إرث عائلة بندلي ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي التي بدأت مع فرقة الأخوة بندلي، قبل أن تنتقل الشعلة إلى ريمي في أغنيات كتبها الراحل جورج يمّين، كانت تنادي باسم الطفولة والسلام في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، قبل أن تختتم مسيرة الطفلة النجمة في عام 1993، بعمل غنائي استعراضي حمل عنوان "رزنامة جدّي"، انفرد بأداء عدد من أغنياته والدها وشقيقها رينيه جونيور. كل تلك الأعمال كان الجندي المجهول الذي يقف خلفها هو رينيه بندلي كملحّن ومنتج ومؤدّ.

في ذاكرة طفولتي لم تكن أغنيات ريمي أولى معرفتي بما يقدّمه ذلك الرجل، بل كان استعادة فرقة بندلي لطقطوقة "الورد جميل". أحد أفراد عائلتي قام عن طريق الخطأ بتسجيل المقطع الغنائي المتلفز على شريط فيديو لمسلسل كارتوني، فصارت الأغنية وكأنها فاصل إعلاني غير متوقّع.

في استوديو بإضاءة حمراء ومشهدية هندسية متواضعة، تحضر الفتيات بندلي وشقيقهم رينيه خلف عوده في توليفة موسيقية بسيطة. يردد الأخوة الجملة الموسيقية المقدّمة للأغنية عبر "آهات" تأخذ مكان آلات التخت الشرقي الأخرى الغائبة عن المشهد، ثم يقوم الشقيق الأصغر فادي بالغناء المنفرد للأغنية في أداء أدرك اليوم أنه شديد التأثّر بأداء الشيخ زكريا أحمد.

وهكذا، بفعل خطأ التسجيل على شريط كارتون، حضرت ذلك العرض الصغير مراراً وتكرارا، لتتشّكل علاقتي الأولى بطقطوقة "الورد جميل" من خلال عائلة بندلي وتسكن ذاكرتي بطمأنينة وحبّ. عن تسجيلات فرقة عائلة بندلي والتي يصل عددها إلى بضع مئات، يخبرك البحث على جووجل أنها قد تدمّرت في إحدى المعارك في طرابلس اللبنانية حيث تقع مدينة الميناء؛ مسقط رأس العائلة. يحسم البحث على غوغل مسألة ملكية أغنية "دوّرها دوّر وأعطيني شحطة"، كونها عملاً لرينيه بندلي ملحّناً، وبشير الضيقة كاتباً، خلافاً للخطأ الشائع بنسبها للفنان زياد الرحباني.

يظهر رينيه في مقابلة تلفزيونية تعود إلى عام 2018، وهو يشرح أن الأغنية كانت جزءاً من عمل استعراضي لفرقة الأخوة بندلي حمل عنوان "شارع العجائب". ثم يظهر كضيف في برنامج تلفزيوني في تسجيل من عام 2015 وهو يجالس عدداً من الفنانين اللبنانيين مقدّمين أداء جماعيا للأغنية ذاتها.

في تلك المقابلات، لا يشبه رينيه طيف ذلك الرجل النحيل الذي شاهدته في صيدا ذات عام ثمانيني. بدا رينيه يومها في بزّته السوداء كساحر لطيف. يشارك ريمي مسرح الساحة المدرسية لاعباً دور الأب تارة، ودور طفل صغير تارة أخرى، ليعود ويختفي في الكواليس تاركاً الساحة لابنته.

يغيب اليوم رينيه ويترك الساحة لريمي ولعائلة بندلي التي تفرّق أعضاؤها ما بين لبنان والمهجر. يغيب ذلك الرجل الذي لعب في "رزنامة جدّي" دور الرّاوي/الوقت الذي يربط الأحداث والفصول في الرزنامة مغنّيًا: "أنا الوقت عمري من عمر الزمان/ أنا الوقت بيكبر فيّي الإنسان/ عمري تكّات وثواني، ولا مرة بمشي خليْفان/ مين اللي بيقدر ينساني؟".

اليوم توقّف الوقت عن رواية قصة الرزنامة وفصولها، لكن مما لا شكّ فيه أن رينيه بندلي سيبقى لدى جيل كامل عصيّاً على النسيان. مدينة الميناء الشمالية ودّعت اليوم ابنها بندلي في مأتم حاشد حضره عدد من الفنانين اللبنانيين وأهالي المدينة. بندلي الذي قدّم فنّه للأطفال غاب اليوم عن بلد لا يعد أطفاله بمستقبل باسم؛ فانتفض مواطنوه ليقولوا "يلعن هالعيشة" كما في أغنية "دوّرها". غاب بندلي عن بلد لا يحظى فنّانوه بالتكريم إلا بعد رحيلهم.

ولعلّ ما قاله كاهن رعية مارجاورجيوس الأب غريغوريوس موسى في رثائه لبندلي يوم جنّازه يوجز الكثير، إذ قال "تخيّلوا هذا العالم من دون موسيقى. بئس هذا العالم من دون موسيقى!".

المساهمون