الفصول الأربعة: مدينة محكومة بالحنين

الفصول الأربعة: مدينة محكومة بالحنين

10 ديسمبر 2019
من مسلسل الفصول الأربعة (يوتيوب)
+ الخط -
في السنوات الأخيرة، تراجع مستوى الدراما السورية بشكل واضح، بسبب تداعيات القمع الممنهج الذي مارسه النظام السوري على شعبه الثائر، وما خلفه ذلك من أزمات في الوسط الفني، سواء تلك المتعلقة بانقسام الكوادر والطاقات البشرية المنتجة، أو الأزمات الإنتاجية والتسويقية، أو التسييس والمباشرة بالطرح التي تحكمت بالدراما التلفزيونية في هذه الفترة. كذلك، ازدادت في الفترة الأخيرة فعالية الصحافة الفنية في سورية، بفضل السوشيال ميديا، فكانت هناك عشرات المنصات السورية المتخصصة بمناقشة الدراما السورية، وتستقطب محبيها كجمهور لها.

هذه الظروف تضافرت معاً لتكريس الدراما السورية التي أنتجت في حقبة "ما قبل الأزمة"، وتم التعاطي مع بعض المسلسلات في تلك الحقبة بوصفها أعمالاً نموذجية، ولن تصحو الدراما السورية من كبوتها، إلا إذا تيمّنت بها. ومن خلال ما تنشره الصفحات المتخصصة بالدراما السورية من إحصائيات، فإن مسلسل "الفصول الأربعة" غالباً ما يتم تصنيفه بأنه أفضل مسلسل بتاريخ الدراما السورية.

ربما يبدو غريباً أن نعود اليوم لمشاهدة المسلسل، الذي مضى على إصداره عشرون عاماً لنقده درامياً، ولكن الهالة المحيطة به، وحضور حواراته الدائم على السوشيال ميديا، وكتابة العديد من التدوينات التي تمتدح بالمسلسل دفعنا إلى ذلك. هنا، يجدر الذكر أن معظم التدوينات والمنشورات التي كتبها المتابعون عن المسلسل، يغلب عليها طابع نوستالجي غريب؛ فيبدو وكأن تقديس السوريين للمسلسل نابع من شحنة عاطفية مرتبطة بالحنين للفترة التي صور بها المسلسل، الذي يعرض وجهاً رومانسياً لمدينة دمشق في زمنه (1999 - 2001). وهذا الأمر يعتبر بحد ذاته أمراً شديد الغرابة، إذ إن المسلسل بحد ذاته ليس سوى تعبير فني عن حالة النوستالجيا التي كانت يعيشها الناس في تلك الحقبة لدمشق القديمة. إذاً هي نوستالجيا للنوستالجيا، في مدينة محكومة بالحنين.

حكاية المسلسل، نص دلع الرحبي وريم حنا، إخراج حاتم علي، تدور حول عائلة دمشقية كبيرة، تختزل بأفرادها، الذين ينتمون إلى أربعة أجيال، مدينة دمشق وطبقاتها الاجتماعية؛ فكبير العائلة، كريم (خالد تاجا)، هو الرجل السبعيني الذي يعيش على الذكريات، وحوّل منزله لمستودع للأغراض التكنولوجية القديمة، من راديوهات وأسطوانات وغيرها، وزوجته نبيلة (نبيلة النابلسي)، الأم المثالية، وأخته جميلة (هالة شوكت) العجوز المتصابية، يشكلون معاً مثلث الجيل الأول الجميل والأصيل.

أما الجيل الثاني، فهم بنات كريم وأزواجهن، الذين يمثلون شرائح اجتماعية متعددة، فمالك الجوربار (سليم صبري) وزوجته فاتن (سلمى المصري) يمثلان الطبقة البرجوازية، وأما نجيب (بسام كوسا) وزوجته ماجدة (مها المصري) فهما يمثلان طبقة الموظفين الكادحين لكسب لقمة العيش، وأما الشاعر برهوم (أندريه سكاف) وزوجته شادية (ليلى جبر)، فهما يمثلان شريحة العاطلين عن العمل تحت خط الفقر، في حين يمثل المحامي الأرمل عادل (جمال سليمان) والابنة العزباء نادية (يارا صبري) شريحة تتخطى الواقع إلى أفكار مثالية عنه، وتوكل إليهما في المسلسل مهمة إلقاء المواعظ والعبر.

أما الجيل الثالث، فهو جيل الشباب، أحفاد كريم ونبيلة، الذين يمثلون مجتمعين حالة من الضياع وعدم الاستقرار النفسي والعاطفي، مع تفاوت ثقافي ما بين رامي (ميلاد يوسف)، الذي كرس حياته للكومبيوتر، ومازن (رامي حنا) المهووس بالنساء والسيارات، وسوسو (ديما بياعة) ومايا (رباب كنعان) اللتين تهتمان بذات القضايا السخيفة والدارجة بمنظوري البنت المتوسطة الحال والبنت الغنية. وأما الجيل الرابع؛ فيقتصر على شخصية الطفلة نارة (روعة السعدي).
من خلال هذه الأجيال والطبقات المتباينة، ناقش المسلسل، الذي ينتمي إلى السياق المتصل – المنفصل، العديد من المواضيع والقضايا الاجتماعية، بعضها كان راهناً حينها. من جهته، استخدم مخرج العمل، حاتم علي، أسلوباً خاصاً، يتراوح ما بين الكوميديا والواقعية الاجتماعية. ولكن فعلياً هناك العديد من النقاط والإشكاليات في المسلسل التي تجعله يبدو ضعيفاً في بعض الأحيان، ولا يرتقي للهالة التي خلقت حوله.

النسيج الاجتماعي الغريب الذي يجمع عائلة مسلسل "الفصول الأربعة" يناقش كل القضايا بمسار رجعي متحفظ، فيتم تمجيد كل ما هو قديم وأصيل، على حساب كل ما هو جديد. وهو أمر يمكن أن نلاحظه بالحوارات الطويلة التي تدور بين شخصيات المسلسل حول الفن، وتدهوره في التسعينيات، لتكون العبرة أنه لا قيمة لكل ما ينتج من فنون حديثة.

وكذلك الحال عند التطرق إلى الاختراعات الحديثة، فيتم انتقاد أي تقنية جديدة يتم اختراعها، من شأنها أن تغير معالم شكل العالم الذي يحن إليه أبطال العمل في منتصف القرن الماضي.
في حلقة "أربع عيون"، يجتمع أبناء الجيل الثاني من المسلسل بمدرسيهم، لينتقدوا التطور الذي شهده العالم، وينكلوا بكل الاختراعات التي ساهمت في تقديم المعلومات بوسائط متعددة، بما في ذلك الموسوعات والنسخ الإلكترونية للكتب، التي انتشرت على الكومبيوتر؛ فالكل يُجمع أن اختراع الكومبيوتر هو سبب تردي الثقافة الشعبية، ويرددون كجوقة: "خير رفيق بالأنام كتاب". بل إن الحال يصل، في بعض الأحيان، إلى تسخيف الاختراعات الجديدة، كما هو الحال في حلقة "قناع مسرحي"، حيث يتم انتقاد الموبايل والسخرية ممن يستخدمونه، فهو برأي الشخصيات المثالية التي تنطق بلسان الحق في المسلسل، اختراع عديم الجدوى، يستخدمه الناس من أجل الاستعراض فقط.

يتميز "الفصول الأربعة" ببساطة المواقف والحوارات، التي تجعل منه مسلسلاً لطيفاً وخفيفاً مناسباً للجلسات العائلية؛ ولكن هذه الحالة العامة تكسرها تلك التنظيرات والجمل الثقيلة التي تضاف في كل حلقة لتحول المسلسل إلى عمل توجيهي أحادي الأفق، يملي على الجمهور التعاليم والعبر، ليهبط فجأة إيقاع المسلسل ويتحول إلى درس ممل، يشبه حصص القومية في المدارس السورية.


تبدو هذه المشكلة بالغة الأثر بالمشاهد التي تجمع المحامي عادل بابنته نارة، فهي ليست سوى دروس بعثية المنهج، تتكون من محاضرات مسيسة في غالبها، يلقيها الأب على ابنته، التي تلعب دور الطالب الشغوف بالعلم، فتسأل وتسأل، حتى تتيح للأب المعلم أن يسرد الدرس كاملاً على مسامع الجمهور، وأحياناً تبدو هذه الأسئلة غير متسقة درامياً.

ومثال على ذلك حوار عادل ونارة في حلقة "أصدقاء نزار"، عندما يلقي عادل درساً على نارة بشعر نزار قباني، فيقوم باختزاله بالشعر الغزلي، لأن شعر نزار السياسي لا يطابق التوجيهات البعثية، وتقوم نارة بطرح الأسئلة، لتعطي مساحة لأبيها لإلقاء الدرس، قبل أن تفاجئنا بنهاية المشهد، عندما تتحول إلى جزء من الجوقة لتردد معه بقية الدرس.

بعض شخصيات المسلسل تتمتع بحضور جذاب جداً، وبناؤها الدرامي متماسك، مثل شخصية نجيب التي يؤديها بسام كوسا، فيتمكن الأخير، رغم ثقل بعض حواراته، من تأدية الشخصية بحس كوميدي عالٍ، وكذلك العمة جميلة، والتي كانت أول شخصية ترسم بهذا الشكل لعجوز متصابية في الدراما السورية، واستطاعت أن تقدم الشخصية بصورة لا يمكن نسيانها. لكن بالمقابل، بعض الشخصيات تفتقد التماسك الدرامي، وتبدو تائهة في حكايات متناقضة ومتعددة لا تكتمل أي منها؛ مثل شخصية ناديا، التي يبدأ المسلسل وينتهي ولا نعرف ماهية عملها، فنراها ببعض الحلقات نموذجاً للمرأة العاملة المتمردة، كما في الحلقة الأولى، التي نراها فيها تعمل سائقة لسيارة أجرة، وفي حلقة "عشاق المقعد الرمادي" تعمل في مجال الخدمات الاجتماعية. وفي حلقات كثيرة أخرى تلعب ناديا دور الفتاة العانس التي لا تعمل، وتقوم بأبحاثها الاجتماعية الخاصة، التي لا ندرك لمن تقوم بكتابتها! فلا هي تنشر، وليس هناك من يقرأها.

وكذلك الحال بالنسبة لشخصيات عديدة، مثل برهوم الذي تضيع شخصيته بين الحلقات ما بين الشاعر الذي يعمل ضمن جريدة وحاصل على إجازة باللغة العربية، وبين الشاعر الفاشل الذي لا يزال يواظب على تقديم البكالوريا، ويعيش عالة على عديله الثري، مالك. كما يتم التعريف بزوجته شادية ببعض الحلقات باعتبارها رسامة، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، وتُغفل هذه المعلومة في حلقات أخرى. وكذلك تتضارب المعلومات مع شخصيات عديدة أخرى مثل رامي ومالك الجوربار وسوسو، مما يجعل الأخطاء جزءاً من بنية العمل.

دلالات

المساهمون