"إلى آخر الزمان" لشويخ: الحياة في مقبرة

"إلى آخر الزمان" لشويخ: الحياة في مقبرة

20 يوليو 2018
من "إلى آخر الزمان" لياسمين شويخ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
كلّ فيلمٍ يشبه مخرجه. "إلى آخر الزمان" (2017) يشبه مخرجته الجزائرية ياسمين شويخ (1982). فيلم عميق عن مقاومة الموت. حيوي ومسلٍّ ومشتبك مع اللحظة التاريخية. ياسمين كذلك. في وجدة، التي شهدت الدورة الـ7 (23 ـ 27 يونيو/ حزيران 2018) لـ"مهرجان الفيلم المغاربي"، كانت تتحدّث وتضحك وترقص وتتصرّف بعفوية. لم تكن، في أي لحظة، تعتقل روحها في "بروتوكول" من يمرّ أمام الكاميرا فيتصرّف كتمثال شمع. شخصيات فيلمها تمشي في مقبرة بطلاقة كما لو أن المقبرة مزرعة. 


يبدأ الفيلم ـ الفائز بجائزة الإخراج والجائزة الكبرى في المهرجان نفسه ـ بمراسم دفن يتبعها سيلفي في مقدّمة الكادر، وفي الخلفية قبور قديمة، وفي العمق (القمة) قبة الولي، بينما البشر الأحياء في السفح، وفي الأسفل سيدي بولقبور، والناس يتغنّون بكرامات الولي في شفاء المرضى وإسعاد المحزونين، بينما يتاجر حفيد الولي في "البركة"، ويعرض شاب خدمات ما بعد الموت على الزوار حسني النية.

في اللقطة كادر الكاميرا، وكادر الشاحنة والسيارات التي جاءت بالزوار إلى المكان. هكذا عُزل العنصر الأساسي ليتابعه المُشاهد بسهولة. مدّة الزيارة 3 أيام. المكان يضع قانون الزمن. من لا يتوفر على 72 ساعة حرة فليغادر فورًا. هكذا يكتشف المُشاهد العلاقة بين الفضاء والزمن ونظرة المخرجة في صورة واحدة، تكتسب دلالة عندما تكون بناء دراميًا.

تتتبّع المخرجة سيميولوجية الموت. يمرّ الزمن، وتنبت الحشائش على القبور. تمنح وحدة المكان للفيلم عمقًا يتماهى معه المُشاهد الذي تربّى في مجتمع يقدّس الموتى. للفرار من الموت، تقوم ياسمين شويخ بعد نصف ساعة بـ"تهوية" الفيلم بإخراج بطليها من عالم المقبرة المغلق إلى فضاء المدينة. بعد ساعة، تجري "التهوية" الثانية في رحلة لرؤية البحر كجائزة للعشّاق الذين تنفض الغبار عن سِيَرهم.




في الفيلم خطّان يتفاعلان بكثافة: خط السياق وخط التجربة الشخصية لجوهر (جميلة أريس) التي تزور قبر شقيقتها لـ3 أيام في ضريح ناء. تحاول استرجاع الماضي الذي ينغص حياتها. تظهر الشقيقتان بسلوكين متناقضين: العاقلة والمجنونة. الأولى تحسد الثانية المتحرّرة باكرًا، التي عاشت وماتت من دون رقابة. يبدو أن الموت يُحسِّن العلاقة بين الناس بعد فوات الأوان.
استقبل حفّار القبور جوهر بأملٍ. بوجودها، اكتشف أنه ميت منذ زمن، وها هو يُبعث حيًّا بقلبٍ دافئ في مرحلة الشيخوخة. تكتشف جوهر كيف يتزاحم الأحياء لمساعدة الأموات لربح الحسنات استعدادًا لآخر الزمان. تتزامن صحون الـ"كسكس" مع ترتيل القرآن. في هذا الفضاء، تقدّم المخرجة التي درست علم النفس شخصياتها الثانوية بأمزجة متباينة: صباغ يكره النساء ويتمنّى الحور العين كأنهنّ الياقوت والمرجان، بينما يصبغ القبور ليفرح زائروها، فالساكنون فيها أكلهم الدود. أرملة شابة توبِّخ زوجها لأنه مات فجأة ولم يخبرها مسبقًا. حارس الموتى يقع في الحب فيتصابى. عجوز حزينة أمام قبر ابنتها. يبدو أن الموت لا يحترم التتابع الكرونولوجي. لا يموت من وُلد أولا.

كيف يتصرف الناس في حضرة الموت؟ شراء ثوب أمر بسيط. شراء كفن حدث هائل. يتصرّفون برعب، لذلك يصيرون أسخياء فجأة. في النصف الثاني من الفيلم، يتحوّل المشهد من الحزن إلى الفرح. يرى حارس الموتى سعادة صباغها فتصيبه عدوى الحب. بفضل الحب صار سيدي بولقبور هو سيدي بولعراس (من العرس)، فارتفع صوت أغاني الـ"راي" (الشاب خالد) التي تمجّد الحياة في بيئة ثقافية يهيمن عليها هجاء الدنيا.

نجح الفيلم في التقديم البصري للبيئة التي تجري أحداثه فيها. مقبرة من دون مجانين. فضاء مغلق تصله رياح العالم حين يدرك حفيد الولي خطر هجمة السلفية على الأضرحة.

في هذا السياق توجّه تقليدي يُمثّله حفيد يعضّ على التقاليد بالنواجذ لكسب النذور والهبات. في القبور تراتيل ودعاء مقابل أكل وفير. بفضل الريع يعيش المُريدون مجانًا في محيط القبر المُدرِّ للدخل. أيدي المريدين ناعمة ووجوههم تسرّ الناظرين بفضل الريع.

الشخص الحداثي في "إلى آخر الزمان" شاب يقاتل لتحديث طقوس الموت. يريد نقل طقوس دفن الموتى من الصدقة إلى قانون السوق. يريد استيعاب حزن الزبون وتحويله إلى مصدر ربح. يعد زبائنه بأنه بعد موتهم سيجلب نائحات محترفات لرثائهم، وسيقيم أضواء فوق قبورهم ويدعو لهم باستمرار. يعرض عليهم خدمة ما بعد الموت، وسيحرص على رفاهية المعزّين.
يؤمن الشاب بأن النقود تفتح طريقًا في البحر، لكن حفيد الولي يحاربه لأن إنشاء شركة للمتاجرة بالموت ستوقف الريع. الريع سبب محنة الحداثة في العالم المغاربي.

المساهمون