سينما إيرانية جديدة: اجتماع وعلاقات وأفراد

سينما إيرانية جديدة: اجتماع وعلاقات وأفراد

08 يونيو 2018
من "هاتريك" لرامتين لوافي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
حين يقول ناقد سينمائي إيراني، معروف عنه أنه من الأكثر تشدّدًا، عن فيلمٍ إنه "الوحيد الجيّد لغاية الآن"، فهذا مفاجئ لمن يتوقع الكثير من الأفلام الإيرانية الجديدة، التي "تغزو" مهرجان "فجر" (بنسختيه الوطنية والدولية) في إيران، وشاشات السينما الإيرانية كلّها بلا منازع "خارجي"، من دون إغفال مهرجانات العالم.

إعلان الناقد هذا جاء خلال تقديمه "يفا" لآناهيد آباد، قبل أيام قليلة من انتهاء الدورة الـ36 (19 ـ 27 إبريل/ نيسان 2018) لـ"مهرجان فجر الدولي"، وبعد عرض معظم الأفلام الإيرانية المشاركة. لا نتّفق تمامًا مع أقواله، على الأقل فيما يتعلق بالفيلم الذي اعتبره "تحفة". وإشارته إلى الجودة كرّرها نقّاد إيرانيون وأجانب، وتؤكّده بعض المشاهدات.

يشارك في "مهرجان فجر الوطني للسينما الإيرانية"، الذي يُقام في فبراير/ شباط كل عام، نحو 100 فيلم روائي، ما يعني أن الإنتاج يتجاوز هذا الرقم، فهناك أفلام لا تشارك لأسبابٍ إنتاجية، أو لأسباب متعلّقة بمستواها الفني أو بمضمونها غير المرغوب فيه. أما ما يدلّ حتمًا على حيوية السينما الإيرانية، فهو إنجاز أكثر من 50 فيلمًا أولًا في العام، ربما يختفي بعض منجزيها لاحقًا، أو يستغرقون أعوامًا عديدة قبل تحقيق فيلم ثانٍ. لكن الوضع بصدد التغيّر بسبب التطوّرين التقني والتمويلي.




هناك ظاهرة تتمثّل بعدم اعتماد الشباب على تمويل "مؤسّسة السينما" الحكومية، وتوجّههم أكثر فأكثر نحو التمويل الشخصي، أو نحو مؤسّسات إنتاجية خاصة ومستقلّة. من هؤلاء الذين قرّروا خوض أولى تجاربهم السينمائية بالاعتماد على أنفسهم إنتاجيًا المخرجة وكاتبة السيناريو الشابّة مريم بحر العلومي (1985)، التي تتناول في "باسيو" (الباحة) مسألة الإحساس بضيق المكان، الذي يرافق الأفراد حتى في مدينتهم الكبيرة. بطلتها شابّة من بيئة شعبية، تضطرّها ظروف مالية مفاجئة للتخلّي عن "حبّها"، والزواج من "منقذ" العائلة. تنجح المخرجة، الفائزة بجائزة أفضل إخراج في "مسابقة الفيلم الآسيوي"، في رصد مشاعر اختناق سكان مدينة ضخمة كطهران. لكن العمل لا يعدو كونه ممتعًا في لحظته، منسيًّا لاحقًا لعاديّته، ولشعورٍ بمشاهدة عشرات الأعمال الإيرانية المُشابهة له أو التي على نمطه.

هذه ليست حال "اللعبة الكبرى"، أول فيلم لعباس نظام دوست (إنتاج خاص أيضًا)، إذْ يترك سرده المعقّد وحواراته التي لا تتوقّف وقصته التي كالـ"بازل" أثرًا خاصًا بعد مشاهدته. فالمخرج انتقد الاعتيادية في الشعور لدى الممثلين، وتنقّل السينمائيين من سينما إلى أخرى مشابهة. هو يريد أن يفعل "شيئًا مختلفًا في السرد والشكل" كما قال، وهو فعل ما قاله. فهل يكفي هذا لتقديم فيلم متميز؟ اعتمد نظام دوست على فريق من الممثلين المشهورين (علي مصفّا مثلاً) لتأدية أدوار أصدقاء يلتقون في منزل أحدهم لممارسة لعبة Wolves Were، التي تتحوّل معهم إلى مكانٍ للنقاش عن الحياة والموت، ووسيلة لكشف الأسرار والأكاذيب لكلّ واحد منهم، لا سيما مع حلول قادم جديد على المجموعة. يذهب الفيلم في شروحات معقّدة للعبة معقدة، مُقدِّمًا شخصياته بطريقة موجزة، مع سعي إلى رفع وتيرة الغموض والتشويق تدريجيًا. وحين توشك اللعبة على النهاية، تبدأ اللعبة الأساسية: لعبة الوجود. أجواء سوريالية ومتاهة تعلق فيها الشخصيات والمشاهدون معًا.

فيلم أول اجتماعي أيضًا مع بويا بادكوبه، القادم من عالم الإعلانات. في "دريساج" (الترويض) ـ المعروض في برلين والحائز على جائزة أفضل عمل أول في "فجر الدولي" ـ يهتمّ المخرج بالمراهقين وأزماتهم ووقائع حياتهم في إيران اليوم. يتعاون مع شباب وهواة غير محترفين، وهنا تكمن قوّة الفيلم. بطلته (16 عامًا) تعيش مع عائلتها في مدينة صغيرة قرب طهران، وتقضي معظم وقتها مع أصدقاء يقرّرون يومًا خوض مغامرة لإضافة الإثارة على حياتهم. الفتاة مهتمّة بالخيول، لكنها ليست الهواية الوحيدة التي تجعلها مختلفة. فهي متمرّدة، وطريقة تفكيرها وتعاملها مع ما يطرأ على حياتها من أزمات ومواجهتها أخطاء الجماعة وسلوكها العدواني تجاهها من أجل ما اعتبرته مبدأ، هذا كلّه يجعلها على حدة بين رفاقها ومحيطها.

العائلة ومشاكلها أيضًا مع مخرج شاب، يُدعى مجيد رضا مصطفوي (1984)، يُنجز ـ بعد 4 أعوام على فيلمه الأول "رمان لم ينضج بعد" ـ جديده "أستيغمات": بعد غياب أعوامٍ عديدة، يعود رجلٌ للمطالبة باستعادة بيته من زوجته وعائلة ابنه المتزوّج. مع سعي الابن إلى إعادة العلاقة بين أبويه كي يبقى الجميع في البيت، تنكشف الخلافات بين الأفراد جميعهم، وتظهر المشاكل الشخصية لكلّ واحد منهم.

من المخرجين الشباب الذين نجحوا في الاستمرار بعد الفيلم الأول، يُقدِّم رامتين لوافي فيلمه الـ3 "هاتريك" (لعبة القبعة)، الفائز بجائزة أفضل سيناريو، بينما حصلت ممثلته ماهور الوند على جائزة التمثيل: يتناول أزمة الأزواج في الطبقة المتوسطة، ويطرح تساؤلات عن الحقيقة والكذب تكون (التساؤلات) بسيطة في شكلها، لكن معالجتها السينمائية لا تخلو من عمق. فهل عدم قول الحقيقة يُعدّ كذبًا؟ وهل الاحتفاظ بالأسرار يشكّل نوعًا من الخداع؟ وهل يبقى الزوجان أحدهما مع الآخر بحكم الحبّ أم العادة؟ تساؤلات بسيطة وعميقة، إذْ تكشف العلاقات المعقّدة اليوم كم أن الواحد يجهل الآخر، وكم أن هذا الواحد لم يلاحظ تبدّلات الآخر، فتقع (حينها) مفاجآت. خلاصة الفيلم أن الناس القريبين لا يتغيّرون فجأة، وعندما يتغيّرون نكتشف أننا لم ننتبه إليهم منذ زمنٍ طويل.

أما "العقول الصغيرة الصدئة" لهومن سيدي فيروي حكاية عائلة شعبية من جنوب طهران، تعاني مشاكل عديدة كالجنوح وتعاطي المخدرات والاتّجار بها. لكن هذا لم يمنعها من مراقبة "سلوك" الأخت والحكم عليها بالموت لشكّها في عفافها. فيلم عصابات مثير للإعجاب بلغته البصرية وإيقاعه اللاهث وشخصياته الغريبة. كما أن "هرمز وهند" فيلم جديد بشكله وأمكنته: عباس أميني يهتم بالتقاليد في جزيرة في الخليج العربي، وبالزواج المبكر تحديدًا. فيلم "طازج" بأداء بطليه الشابين، وممتع بسرده، وجديد بقصته، وملتزم بأهدافه.

بهرام توكلي (1976)، الحائز على جوائز عديدة، يعود بفيلمٍ حصد أكثر الجوائز أهمية، كأفضل فيلم إيراني وأفضل إخراج، في "المهرجان الوطني للسينما الإيرانية" (1 ـ 11 فبراير/ شباط 2018). في "مضيق أبو غريب"، اهتمّ بالحرب العراقية الإيرانية، وتحديدًا بالأيام الأخيرة منها، مع خوض مجموعة صغيرة من الجنود الإيرانيين، قبل توقيع اتفاقية السلام، معركة غير متكافئة مع الجيش العراقي. موّلت الفيلم شركة إنتاج في طهران تُعنى بالأعمال "الثورية" في الفن والسينما.

تعود الأفلام الإيرانية الجديدة بأسلوب جديد في معالجتها المواضيع الاجتماعية. تتابع اهتمامها بالطبقات المهمّشة والفقيرة، من دون أن تغفل الطبقات البورجوازية الوسطى، وتدخل في عمق العلاقات الإنسانية كعادتها، مع اقتراب أكبر من قصص الأزواج ومشاكلهم، ومع ايحاءات جنسية أكثر تكرارًا ومباشرة من قبل. كما يبرز فيها المضمون على حساب الصورة، وتعتمد الحوار، والثرثرة أحيانًا، على حساب التأمّل. هكذا، فإنّ الهموم الوجودية الفلسفية التي سادت في عهد عباس كيارستمي تبتعد أكثر فأكثر، ليسود عهد أصغر فرهادي والقصص الاجتماعية التي تسبر أعماق الشخصيات عبر الحوار، مع الإشارة إلى أن عهد فرهادي لم يعد يعني اليوم تقليده، كما دأب الشباب على فعله مباشرة بعد نيله الجوائز الدولية.

المساهمون