"تسلّل"

"تسلّل"

27 يونيو 2018
من "أوف سايد" لجعفر بناهي (فيسبوك)
+ الخط -
التسلّل أحد أخطاء رياضة كرة القدم. هو يوقف اللاعبَ في لحظة هجومٍ، ويؤخّر فوزًا يُمكن اقتناصه بهدفٍ يمنع التسلّل تحقيقه. هناك من يراقبه بدقّة تحول دون تمكّن اللاعب المهاجم من بلوغ مُراده، لوحده أو بالتعاون مع رفاقه.

التعبير بحدّ ذاته مُثيرٌ للاهتمام. في الحياة اليومية، هناك لحظات كثيرة "يتسلّل" فيها أحدنا لتحقيق "هدفٍ" ما، هروبًا أو رغبة في فعلٍ لن يكون سهلاً تنفيذه بشكلٍ طبيعي. التسلّل في الحياة اليومية متأتٍ من ضغوط وموانع وقواعد مفروضة، فإذْ بالمرء يحتال ويسعى إلى ما يبتغيه عبر التسلّل، لانسداد كلّ أفق آخر أمامه. في الحياة اليومية تلك، هناك رقابة صارمة أيضًا تجتهد في تنفيذ قوانينها بالوسائل المتاحة كلّها.

التسلّل فعلٌ "ثوريّ" يُراد به بلوغ أمرٍ ما. في مباريات كرة القدم، تنعدم ثوريته المرتبطة باجتماعٍ أو سلوكٍ تربوي أو ثقافة ضاغطة. فـ"ثورية" التسلّل الرياضي نابعةٌ من رغبة في تحقيق هدفٍ بشتى الوسائل، لكنه يُعتَبر ـ ببساطة ـ "خطأ غير مقصود".

ينشغل "أوف سايد" (2006) للإيراني جعفر بناهي (1960)، وهو أحد الأفلام الجميلة، بفكرة التسلّل ومفهومه وثقافته، في مجتمع منغلق ومتزمّت سياسيًا واجتماعيًا. اختيار التعبير عنوانًا للفيلم ـ الذي يروي رغبة شابات إيرانيات في متابعة مباراة لكرة القدم يخوضها فريق إيراني ـ أساسيّ في البنيان الدرامي للحكاية. الشابات ممنوعات من دخول الملعب، بسبب قواعد اجتماعية ـ تربوية ضاغظة. لذا، يُصبح للتسلّل معنى إنساني وثقافي واجتماعي، ويُصبح للفعل المباشر للشابات حضور أساسي في تحدّي القمع والمنع والرفض والانغلاق والانزواء.

الرغبة في المُشاهدة المباشرة داخل الملعب أقوى، والتحدّي الواعي أجمل، واقتناص الفرصة دليلٌ على أن التسلّل فعلٌ إيجابي وثوري وضروري. التنكّر بزيّ شابٍ تعبيرٌ إضافي عن الفعل الثوري لـ"التسلّل"، فهدف التنكّر أسمى، ويُمكن للمرء "أن يفعل أي شيء" لتحقيق مبتغاه. "الغاية تبرِّر الوسيلة"، طالما أن تحقيق الغاية ممنوعٌ بوسائل قاتلة.

لن تدخل كاميرا جعفر بناهي إلى الملعب. لن تلتقط تفاصيل ما يحصل في الملعب. لن تكترث بأحوال لاعبين ومشجِّعين، ولن تتابع مجريات المباراة. هذا كلّه غير مهمّ. "المبارزة" في مكانٍ آخر. الصراع "خارج اللعبة" (كما العنوان الفرنسي). المعركة محتدمة في صميم الاجتماع الإيراني. معركة يخوضها جعفر بناهي لاحقًا، و"يُمنَع" بسببها من الخروج من المنزل والبلد، ومن تحقيق الأفلام، فإذا به يصنع أجمل تسلّل سينمائي، مُقدِّمًا بعض أفضل أفلامه "الممنوعة" في الأعوام الـ10 الفائتة.

هكذا تُصنع السينما. بل هكذا يُصنع نوعٌ منها. التسلّل مهنة عباقرة يكتبون تاريخًا بتسلّلهم بين الموانع والمحرّمات، ويجعلون الحاضر مرآة ناصعة لحكايات وأحوال. في كل إبداع قمعٌ وتسلّل. هذه مسلّمات الأزمنة والبشرية.

هذا بعض ما يقوله "أوف سايد" لجعفر بناهي أيضًا.

دلالات

المساهمون