بوح معلّق... "بيت البحر" للّبناني روي ديب

بوح معلّق... "بيت البحر" للّبناني روي ديب

18 ابريل 2017
رودريغ سليمان في "بيت البحر"
+ الخط -
يختزل اللبناني روي ديب (1983)، في فيلمه الروائي الطويل الأول "بيت البحر" (2016)، زمن الحكاية الأصلية، بسهرة عشاء، كي يروي انفعالات وحالات خاصّة بـ 4 شخصيات، مرتبطة بعلاقات مختلفة، تتراوح بين الأخوّة والصداقة والحبّ. والحكاية الأصلية معقودةٌ على مسعى إنسانيّ إلى فهم نواة العلاقات، وامتداداتها المختلفة، في الاجتماع والهوية والانتماء والعمارة والراهن، وعلى بنية التواصل الحسّي بين هؤلاء جميعهم، وهو تواصل مسكونٌ بتمزّقاتٍ متعلّقة بالامتدادات المذكورة. 

لكن الصورة السينمائية، التي يعتمدها روي ديب في صُنع فيلمه، تبدو أصل الحكاية وأداة سردها. ففي مقابل وفرة في الكلام، وبعضه منطوقٌ بأسلوبٍ تنظيريٍّ يغلب التفكير فيه على العفوية أحياناً، تلتقط الكاميرا (كريم غريّب) مسام الجسد وغليان الروح، من دون الركون إلى كلامٍ أو حوار. وفي مقابل ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم وأفكارهم ومشاعرهم ورؤاهم، تتحوّل الكاميرا إلى شكلٍ آخر للبوح، إذْ تلتقط جوهر المخبّأ (أو جزءاً منه)، وتفضح شيئاً من محتواه، وتخترق المبطّن لتكشف بعض المستور فيه.

هذا يعتمد على براعة في مناكفة المخبّأ والمبطّن، إذْ مع كل خطوة لهذا الشخص أو ذاك باتّجاه البوح بما يريد، تخطو الكاميرا خطواتٍ أبعد في منح الاعتراف مناخه الإنسانيّ والدراميّ والجماليّ، المتلائم وفحواه، المنطوق بها، وغير المنطوق بها أيضاً. والتلاعب ـ الذي يمارسه النص السينمائيّ في شؤون مختلفة، أو ذاك المُمَارَس في العلاقات المرمَّمة بين بعض هؤلاء، أو في تلك الجديدة الناشئة لحظة اللقاء ـ يُشكِّل إضافة جمالية للسرد الحكائي، ولتصوير الانفعال، وللمُشاركة الحسية في خوض مغامرة التعرّي الذاتي ـ روحياً ومعنوياً وفكرياً ـ لأناسٍ يقفون في المسافة الأخيرة للانهيار، أو يجلسون أمام حافة الهاوية ساخرين منها أو منتفضين عليها، أو يعودون إلى ماضٍ يُشكّلون فيه خياراتٍ ومساراتٍ، فيسألون (أنفسهم أولاً، وإنْ بصوتٍ عالٍ أمام الآخرين) عنها، وعن مسالكها وتأثيراتها فيهم.

أما المباشر في بعض الكلام ـ وإنْ يميل إلى خطابية تنظيرية تتناول العلاقات وشؤون الوطن وفلسطين وموقع العربيّ في الغرب ـ فيبقى مدخلاً إلى مزيدٍ من التعارف المطلوب بين الأشخاص أنفسهم، وبينهم وبين من يتابع حكاياتهم وانفعالاتهم وأهواءهم وتناقضاتهم وصداماتهم ورغباتهم. فالمباشر يبدو تحريضياً، أحياناً، في تسريع الكشف والفضح والتعرية، من دون أن ينتقص من حيوية الصورة ولغتها، إذْ تحتلّ الصورة ولغتها مكانة أساسية في توطيد الصلة بين متون النصّ السينمائيّ وخطّه الدرامي.

ذلك أن المتون موزّعة على ذاكرةٍ وحبّ ونهايات معلّقة أو غير محسومة، ومنفلشةٌ على أسئلة الخيارات المتخّذة وتشعّباتها، ومنضويةٌ في مسعى ذاتي إلى تطويع الآنيّ، وفقاً لاختلاط المعاني والأزمنة والأهواء. والخطّ الدرامي مبنيٌّ على قصّة، تبدو عادية لوهلةٍ أولى، قبل أن تنفتح على تساؤلات العيش، وعلى جمالية الصورة السينمائية في تقديمها القصّة، وانفعالات ناسها: لقاء 3 أصدقاء بعد اغتراب 10 أعوام، بحضور شقيقة الصديقة، العائدة من فرنسا إلى بلدٍ يُقيم على خطّ فلسطين، وإلى بيتٍ يُقيم على شاطئ البحر، وإلى عائلةٍ فاقدة أركانها باستثناء الشقيقة.

إذاً، هي حكاية لقاء بين 4 أشخاص: ريّا (ساندي شمعون)، تمارس سلطتها على مستمعين يأتون إلى حفلاتها الأسبوعية للاستماع إلى ما تفرضه هي عليهم من أغنياتٍ، فتنساهم طوال السهرة، وتتذكّرهم لحظة مغادرتهم. تلتقي، صدفة، صديقيها يوسف (رودريغ سليمان) ورواد (جوليان فرحات)، فتدعوهما إلى إحدى تلك الحفلات، وتُصرّ بعدها على استضافتهما على عشاء مرتجل، بحضور شقيقتها الكبرى ليلى (نسرين خضر). هذا يعني التزاماً بمكانٍ واحد (بيت على شاطئ البحر)، وزمان واحد (ليلة واحدة)، ومناخ واحد مفتوحٍ على ماضي الأيام الذاهبة، وعلى راهن اللحظات الشاردة، وعلى قسوة التعرّي الروحي والذاتي لكل واحد منهم أمام نفسه والآخرين.

إلى أسئلة الوطن والغربة وفلسطين، يكتب روي ديب، بالتعاون مع رأفت مجذوب، نصّاً سينمائياً مبسّطاً وشفّافاً، خصوصاً في كلّ ما يتعلّق بأحوال الماضي وخياراته، وبأوهام الراهن ومشاغله. لكن، يُمكن تجاوز هذه الأسئلة إلى ما هو أعمق، إذْ تذهب الشخصيات إلى عوالمها الدفينة، كي تبوح بانفعالاتٍ تعكس مواجع وآلاماً ومشاغل، وإنْ يحافظ البوح على سخرية تضجّ بها أقوالٌ وتصرّفات ورغبات، وكي تنسلخ من تكتّمها الملتبس، وكي تحاول استعادة شيء من بهاء الاعتراف، أو من جمالية الصمت، أو من سكينة ستكون مرآة مفتوحة على مزيدٍ من الالتباس والانكسار والخيبة.

لذا، يُمكن اختزال المسألة برمّتها، بالقول إن "بيت البحر" شهادة سينمائية جميلة وقاسية، عن بوحٍ معلَّق، أو عن حياة مكسورة، أو عن احتيالٍ جميل على الحياة والذات.


المساهمون