"صبمارين" و"بحبال الهوا" اللبنانيين... في معنى التكثيف الدرامي

"صبمارين" و"بحبال الهوا" اللبنانيين... في معنى التكثيف الدرامي

27 فبراير 2017
يمنى مروان في "صبمارين" لمونيا عقل
+ الخط -
بعيداً عن تنظيرٍ متداول ومعروف في العالم العربي، يتعلّق بصناعة الفيلم الروائيّ القصير، يُشكّل فيلما "صبمارين" لمونيا عقل و"بحبال الهوا" لمانون نمّور نموذجاً لواقع هذا النوع السينمائيّ في لبنان. والنموذج، إذْ يؤكّد حراكاً إنتاجياً في هذه الصناعة (بدءاً من الأكاديميات والمعاهد الجامعية ومدارس السينما في البلد)، يُثبت أن الاختزال الدراميّ يمزج التكثيف البصريّ بتوليفٍ متلائمٍ والمناخ الإنسانيّ، ويسرد حكايته وفقاً لتقطيع متساوٍ وحالاتٍ فردية وعامة. 

فالأول يُحوِّل أزمة لبنانية بحتة، يتداخل فيها السياسي بالبيئي، إلى تصوير يقترب من سوريالية المشهد والموقف والحالة، بقدر ما يجعل الصورة السينمائية تعبيراً عن رؤية يُراد لها أن تلتزم واقعية المأزق، من دون أن يُقيِّد هذا الالتزام جمالية النزوع باتجاه متخيَّل أقسى من كلّ واقع ممكن، لشدّة إمكانية حصوله.

والثاني يتناول تفاصيل عيشٍ عاديّ للغاية، يتعلّق بأفرادٍ مُقيمين معاً في منزلٍ يُطلّ على البحر، كي يروي ـ بلغة سينمائية أهدأ وأبسط ـ شيئاً من فظاعة التمزّق، وقسوة العنف المبطّن في علاقاتٍ وحالاتٍ، قبل أن تنكسر حدّة المسافات غير المرئية بين الجميع.

يتحرّر "صبمارين" و"بحبال الهوا" من كلّ ثرثرة أو خطابية أو نزعة تعليمية، في سرد حكايتيهما. الواقعية الإنسانية شديدة الوضوح، وترجمتها السينمائية مبنية على سيناريو سلس في مقاربته المأزق أو الحالة أو الانفعال، وعلى خفّة حضور أدائيّ يُصيب المبتغى، المتمثّل بتقديم أعماق الغليان الحاصل في بيئة جماعية (صبمارين) أو داخل منزل عائليّ (بحبال الهوا)، بتعابير وحركات وسلوك يجمع بساطة التعبير بقوّة الجرح، ويضع الشخصيات في صلب انهيارات المكان والاجتماع والعلاقات. والخفّة المقصودة لا تعني استسهالاً تمثيلياً، لأنها تحتمل حِرفية واضحة في تقديم كلّ شخصية، بما فيها من شكلٍ وشعورٍ وتميّزٍ وحركة ونُطقٍ، يجعلها تختلف عن الأخرى، وتتكامل معها أيضاً في رسم ملامح الخراب الجماعي (صبمارين) والفردي (بحبال الهوا).



عبثية الواقع اللبناني، المتمثّلة في تنامي حدّة أزمة النفايات قبل نحو عامين، تظهر في "صبمارين" بأشكالٍ مختلفة: ديكور يعكس صورة مستقبلية لبلدٍ يُسرف مسؤولوه في استقالتهم من واجباتهم، ويغرق ناسه في انعدام أي رغبة في المواجهة والضغط، وتتحوّل شوارع مدنه وفضاءاتها إلى "مزبلةٍ" تأكل كلّ شيء، وكلّ أحد.

وهذا لن يحضر في "بحبال الهوا"، رغم المشترك بينه وبين "صبمارين" على مستوى النواة الأساسية للحبكتين: واقعية الحدث/ الحكاية/ المشهد. فأزمة النفايات دافعٌ إلى التطرّف البصريّ في رسم صورة غرائبيّة عن مستقبلٍ قابل لأن يحصل؛ وأزمة العلاقات المرتبكة بين أفراد العائلة الواحدة (بحبال الهوا) ركيزة درامية لالتقاط مساراتهم وانشغالاتهم وحساسياتهم وخيباتهم وانفعالاتهم ومصائبهم. لكن النواة المتشابهة تُنتج اختلافاً جوهرياً في تصوير المقبل من الأيام بين الفيلمين: فـ "صبمارين" يغوص في سوريالية وعبثية فائقتين، و"بحبال الهوا" يحرص على واقعيته الإنسانية والاجتماعية والسينمائية، في تشريح المنزل العائليّ وساكنيه.

6 شخصيات تتوزّع جوانب "بحبال الهوا" ومناخه المفتوح على علاقات مرتبكة، ومشاعر متوترة، ورغبات موؤودة، وهواجس معطّلة، ومخاوف مبطّنة، وإنْ ينكشف شيئاً منها بين الفينة والأخرى. وإذْ تبدو الرغبة في الانجاب لدى الزوجين (ديامون بو عبّود وجورج خبّاز) عصيّة على التحقّق، ما يوحي بإمكانية إنشاء علاقة عابرة لتحقيق المبتغى مع عاملٍ لدى العائلة (جوزف ساسين)؛ فإن الركون إلى التصادم الصامت بين ثنائيّ آخر (كريستين شويري وحسان مراد) مدخلٌ إلى كشف المسكوت عنه، في العلاقات وآليات التواصل بين الجميع. أما المُقعد (جوزف شمالي)، فيبدو أشبه بـ "مايسترو"، يتحكّم بشكل خفيّ ولاواعٍ بمسالك الحبكة والشخصيات. بل يبدو كأنه نقطة التقاء الجميع، وضابط إيقاعاتهم، وإنْ بشكل مستورٍ.

في مقابل 6 شخصيات تتحرّك داخل حيّز مكانيّ واحد وضيّق، تحتل شخصية هالة (يمنى مروان) مكانة أساسية في "صبمارين"، في سياق حدثٍ ينبثق من تراكم أكياس النفايات بين المنازل وداخلها، وفي المحلات والأزقة. فهي الوحيدة المُصرّة على البقاء، وتحدّي المأزق، وعدم الاستسلام إلى هروبٍ لن ينفع، وإنْ يبدو أن البقاء والتحدّي وعدم الاستسلام أمورٌ لن تنفع، هي أيضاً. فهالة تُكمل حياتها، رغم أن أكياس النفايات تتحوّل إلى أثاث منزلها، وإلى ما يُشبه جدرانه أيضاً. والجيران جميعهم منهمكون في توضيب أغراضهم للرحيل، لأن غوّاصة تنتظرهم لإخراجهم من بؤسهم الجديد.

لكنّ، لهالة ذكريات وجراحا. وعبثية المشهد الخارجيّ و"سورياليته الواقعية" (إنْ يصحّ التعبير) يواجهان انعتاقاً من واقعية الحدث وراهنيته داخل ملهى سابق، تستعيد هالة فيه صُوراً قديمة على إيقاع أغنيةٍ ورقصاتٍ وكؤوسٍ.

في هذا كلّه، يؤكّد الفيلمان جماليات التكثيف الروائيّ والسينمائيّ، في فضح وقائع، وتفكيك بُنى اجتماعية وإنسانية مختلفة.



دلالات

المساهمون